الأسطورة والرمز في 'الشجرة التي هبطت من السماء' لعزالدين جلاوجي

الرواية الأخيرة للكاتب الحزائري تعد مثالا للنزوع نحو توظيف الأسطورة ومنحها أبعادا فكرية واجتماعية وإنسانية تتلاءم مع تطلعات القارئ اليوم.

       يبدو أن الإنسان المعاصر لم يغادر بعد عالم الأساطير رغم إبحاره في واقع التكنولوجيا والعلوم. بل يؤكد ميرسيا إيلياد بأن الإنسان ما زال في حاجة إلى الأسطورة وأنها لم تختف أبدا من مجال الفعالية النفسية، وأنها تبدّل فقط  ملامحها وتعمل على تمويه وظائفها، معتبرا أن ما يصيب المجتمعات الحديثة من ضيق وقلق وما تواجهه من أزمات إنما يعود إلى غياب أسطورة خاصة بها.

لقد كانت الأسطورة منذ القديم معينا أول للأدب، ويبدو أنها ستبقى ملهمة للمبدعين في كل العصور شعرا وقصة ورواية، وأنها تتجدد مع كل عمل فني لتتوالد معها الرموز والدلالات، مستجيبة لحاجة الإنسان المتجددة للأسطورة، ولعل الرواية الأخيرة للكاتب عزالدين جلاوجي "الشجرة التي هبطت من السماء" (1) مثال لهذا النزوع نحو توظيف الأسطورة ومنحها أبعادا فكرية واجتماعية وإنسانية تتلاءم مع تطلعات القارئ اليوم.

      تنفتح رواية الجلاوجي "الشجرة التي هبطت من السماء" على حدث أساسي سيشكل مدار الأحداث اللاحقة، وهو القحط الذي أصاب "الشجرة الروحانية" كما يسميها القوم، وامتد إلى الأرحام في القبيلة مهددا بالفناء والاندثار. لينتشر الخوف بينهم بعد أن أعلن طيف غامض أن قد "جفّت الشجرة..ستجفّ الأرحام". وتتوالى طقوس النساء حول الشجرة المقدسة استجداء وتضرعا، وطلبا للخصب للشجرة العجفاء وللنساء العواقر.. وتتعدد لدى رجال القبيلة الـتأويلات والحلول. وحين تعود الروح إلى جذور الشجرة فتطرد النحس تولد حيزية، لتكون هي "سرّ الأسرار" والشخصية المحورية في الرواية وتنشأ معها قصة حب غريبة، قبل أن تتناوشها العيون وتحاصرها الفتن.

تجليات الأسطوري في الرواية:

     تعرف الأساطير بأنها تلك القصص المجهولة المنشأ تروى عن الآلهة أوعن كائنات بشرية متفوقة وحوادث خارقة في أزمنة غابرة .(2) ويفسر ميرسيا إيلياد بعض وظائفها إذ "لا وجود للأسطورة إذا لم تعمل على إماطة اللثام عن سرّ ديني، وإذا لم تكشف عن حدث أوّلي قديم أسّس بنية للواقع أو سلوكا بشريا". (3) 

 وتتجلى أولى ملامح الأسطورة في رواية "الشجرة التي هبطت من السماء" على مستوى البنية  السطحية، في عتبات الرواية وأحداثها وبعض شخصياتها. إذ يبشر العنوان بالخارق والأسطوري(هبوط الشجرة من السماء) ويحيل على بعد عجائبي  يتدعم عبر نهاية الرواية حيث تختفي الشجرة  ويختفي معها القبر، وترتفع الأعين بحثا عنهما في السماء.  كما يبرز المنحى الأسطوري في صياغة عناوين فصول الرواية الأربعة صياغة سماتها الغموض والغرابة واللامعقول (كهف من طيف عليم – ريح من صخر كظيم..) واستلهام النص القرآني (شيطان من إنس رجيم) (لي الأرض وما تعرشون، ولي القلب وما تمنون) في جمل مسجوعة تشكل امتدادا للعنوان ..

   يمتد الغموض إلى الزمان والمكان، إذ لا تحديد لهما ولا علامة تخصيص. مكونات المكان تشمل الواحة والصحراء ومضارب القبيلة والجبل والوادي.. أما الزمان فهو غائم، قد لا نتبين علاماته إلا عبر بعض الشخصيات التي نعتبرها مفتاحا مهما لقراءة الرواية ومنها خاصة الطبيب النصراني الذي يزور القبيلة بين وقت وآخر ليعالج مرضاها. وتتردد في الرواية أصوات أطياف غريبة تهدّد القوم حينا، أو تأمر بتطهير الشجرة " جفت الشجرة، ستجف الأرحام "، أو تعلن أحيانا طريق الخلاص.

   وتعتبر طقوس النساء حول الشجرة طلبا للخصب أهم ما يدعم البعد الأسطوري "يبخرونها في كل أعيادهم.. ويخضبون جذعها بأجود أنواع الحناء.. ويجمعون ما تساقط من ورقها فيعتمدونه علاجا لأمراضهم ويعلقون عليها أحلامهم وأمانيهم خرقا "ص 16 . وتتالى الأحداث في الرواية متحررة من قيود الواقع وسطوته لتنهل من الموروث الشعبي ومن الأسطورة تعيد تركيبها وشحنها برموز ودلالات جديدة .

تطويع الأسطورة:

    تحضر الشجرة في عديد الأساطير القديمة (البابلية، المصرية، العربية...) ولدى عديد الشعوب رمزا للكون وتعبيرا عن الحياة وتجدد الشباب، وهي أيضا رمز للدورة الطبيعية للحياة والموت والانبعاث وللتجديد الدوري اللامتناهي، كما ارتبطت بها في الأساطير معاني الحكمة والمعرفة والخصب والخلود. أما حيزية، الشخصية المحورية في الرواية، فهي ذات بعد تاريخي إذ تحيل على أشهر قصة حب في الجزائر.. قصة حيزية بنت أحمد بن الباي،  فتاة جزائرية من عرش الذواودة ولدت سنة 1855 وعاشت قصة حب مع ابن عمها سعيد . ورغم اعتراض القبيلة على علاقتهما فقد انتهت بالزواج، لتموت حيزية بعد وقت وجيز ولمّا تتجاوز 23 سنة. وقد انتشرت قصتها خاصة عن طريق الشاعر محمد قيطون الذي صاغها شعرا نسبه إلى حبيب حيزية سعيد . . لذا نتساءل أيّ علاقة نسجها الكاتب بين الشجرة المقدسة في الأساطير القديمة، وقصة حيزية الشخصية التاريخية ذات البعد الشعبي في الجزائر، والتي كتبت عنها الروايات والقصائد وتحولت عبر المخيلة الشعبية إلى أيقونة ورمز؟

   ربط عز الدين جلاوجي في الرواية بين حدثين هامين: عودة الشجرة إلى الحياة بعد طقوس عديدة، وولادة حيزية بعد طول انتظار، لتعود الخصوبة إلى أرحام النساء وتستمر الحياة.  وبذلك تتحول الهالة الأسطورية من الشجرة إلى حيزية  فتنزاح الأسطورة إليها . فحيزية قد عُشقت حتى قبل أن تولد إذ كانت طيفا و"سرّ الأسرار" يتراءى لسعد في اليقظة والمنام، طيفا يراوده ويخاطبه فيعشقه قبل أن تولد حيزية . ويتحول الطيف بعدها إلى "حيزية" فتنسج الحكايات عن جمالها الخارق وتغدو محل أطماع رجال القبيلة، فيحلمون بالزواج منها. في حين تنشأ بين حيزية وابن عمها سعد قصة عشق غريبة.

ولا يخفي الكاتب التواصل الرمزي بين الشجرة المقدسة وقصة حيزية، "قصة حبّ ولدت في رحم الغيب وتخلقت في رحم الأحلام، وها هي تورق فجأة على حين غفلة من الزمن كما أورقت الشجرة الروحانية". ص328 . وكما كانت الشجرة في الأساطير رمز الخصوبة وتجدد الشباب، كانت حيزية رمز الخصوبة والجمال، وقد انضاف إلى صورتها مسحة من الغموض جعلتها فعلا "سر الأسرار".

في الرواية إحالات عديدة على أسطورة عشتار "سيدة الأسرار"، وعلى نموذج المجتمع الأمومي في الأساطير القديمة، ذاك الذي "أسلم قياده للمرأة  لتقدير أصيل وعميق لخصائصها الإنسانية وقواها الروحية وقدراتها الخارقة فكانت بشفافية روحها أقدر على التوسط بين عالم البشر وعالم الآلهة" (4)  وهو ما يتبدى في الرواية عبر الأدوار التي نهضت بها النساء في حياة القبيلة. كما تستدعي رواية عز الدين جلاوجي عديد الرموز الأسطورية الأخرى، منها الجرة الفخارية والقمر . لقد رأت (المايسة) صورة القمر في جرّتها الفخارية وفي ذلك إيحاء بالحمل الوشيك وبعودة الخصب، فالقمر في الفكر الميثولوجي هو المسؤول عن خصوبة النساء. غير أن رواية "الشجرة التي هبطت من السماء" لا تستعيد الأساطير فقط  بل تطوّعها وفق رؤية الكاتب، وتنزاح عنها لتخترع رموزها.

 الأسطورة والرموز الاجتماعية:

       تحيل شخصيات الرواية بتنوعها ومواقفها على تصورات اجتماعية رمزية ثرية. منها ظاهرة النزوع إلى التفسير الغيبي للأحداث، ونسبة كل الشرور والمصائب التي يعيشها الإنسان إلى الجن (عمّار)، أو تفسيرها دينيا فقط (عبدالله)، مع رفض الحلول المنطقية، واعتماد السحر لمواجهة الأمراض (عزوز بو لحروز).

 وتعكس طقوس النساء حول الشجرة الروحانية أهمية دور المرأة في تجدد الحياة اجتماعيا  وفي تواصلها. وكما حظيت المرأة بالقداسة في عديد الأساطير القديمة جعلتها تصل مصاف الآلهة "عشتار" فإن المرأة في رواية عزالدين جلاوجي قد اكتسبت سمات أسطورية جعلتها المنقذ والمخلص وواهب الحياة، وتشكل معها مجتمع أمومي يسلم قياده للمرأة . يقول الشيخ عبد الله إنها "دولة النساء"، ويرد سرحان: "ولكن لا معنى لنا من دونهن" ص48. لقد غدت المرأة (نوّة) المرجع للجميع، و"سعت بكل قوة لتزرع الأمل من جديد في الأرحام". أما منّانة فقد "صنعت من حيزية أنثى مختلفة".

    لقد حوّل الكاتب حيزية من شخصية تاريخية إلى نموذج أول، وكانت قصة عشقها قصة حب يتحدى الأقدار والموت، لينبعث في عالم آخر أكثر صفاء وجمالا. حيث لا يمكن للحب أن يعيش في عالم مشحون بالكراهية " نريد سر الأسرار لتشرق حيث الصفاء، ها هنا ستسحقها غيوم الأحقاد" ص 107. لقد كانت حيزية حلم كل الرجال، واحتدّ التنافس بينهم  للزواج منها. يقول الدهماني "إما أن أتزوج حيزية أو أقتلكم جميعا"، ويقول عزوز بولحروز: "أي جنون حلّ بالقبيلة؟ من حيزية هذه التي باغتت الجميع فسرقت قلوبهم؟ إنسية أم جنية؟".  ذلك أن العلاقات الاجتماعية التي نمت فيها حيزية لم تشهد سوى الخلافات والعداوات والأحقاد مما أدى إلى نزول اللعنة على القبيلة، فكان موت حيزية وموت سعد معها واختفاء الشجرة المقدسة رمزا لضرورة حدوث تغيير حقيقي، و ميلاد واقع اجتماعي مغاير. إن اقتران عودة الشجرة إلى الحياة مع ولادة حيزية، ثم اقتران موت حيزية مع اختفاء الشجرة، ليؤكد أن الحب والخصب لا يمكن أن يعيشا في وسط مشحون بالحقد والكراهية.

الرموز  الحضارية والفكرية:

    رغم نزوعها الأسطوري الواضح الذي يسمها بالغموض، تتخلل الرواية إشارات حضارية هامة، يمكن أن تقرأ على أنها رسائل من الكاتب أو تلميحات إلى واقع حضاري راهن، وهو ما تنهض به كل الأساطير حين تعمد إلى المجاز والرمز والخيال لتوصل رسائلها إلى القلوب قبل العقول .. أهم هذه الرموز شخصية الطبيب النصراني، الذي يتردد على القبيلة ليسرق كنوزها وتراثها الشفوي، في تلميح جليّ إلى الغرب الاستعماري الذي استغل خيرات البلاد العربية تحت ستار "الحماية" . يقول الطبيب النصراني " أنتم أمة أمّية كنبيّكم، لا تكتبون ولا تقرأون ولكن لكم كنوز، يجب أن نكتبها لكي نحافظ عليها "ص295. وتتجلى الإشارة الحضارية أيضا مع "بوسعدية" رمزا لإفريقيا المستعمرة، إذ عمد الطبيب النصراني إلى اختطاف ابنة بوسعدية واستغلالها لخدمته.

 كما تبدو ثنائية الحياة والموت، وصراع الخير والشر، وضرورة تجدد الحياة والانبعاث محورية في بناء الرواية . ولعل الوظيفة الرمزية التي أرادها الكاتب للأسطورة هي كشف "الحاجة إلى بداية مطلقة يحس بها المرء إحساسا غامضا، وإلى أن يبدأ حياة جديدة، وإلى أن ينبعث انبعاثا شاملا". (5) 

الأبعاد الجمالية:

    يتكئ الخطاب الأسطوري في الرواية على الصور الترميزية المثقلة بالصور والمجاز والصور الشعرية تضفي على الرواية جمالية سحرية غامضة ..لعل أبرزها تلك المقاطع الوصفية التي رسمت صورة حيزية طيفا غامضا: "شهقت عيناه دهشة وهو يراها تتنزل أمامه من كبد السماء مجللة بالنور والبهاء، كما تتنزل الأحلام مدثرة بالألق والجمال. وكان في فمها سحر الأسحار الحالمة المرصعة بجواهر السماء، المصغية لهسيس الكون" ص195. شعرية قد يولدها وصف الأصداء "ولكن الصدى بات يرتد إليهم موزّعا في الفلوات، كنواح الأحقاد والبغضاء، كشخير الدم الفائر في الفيافي الموحشة ". ص555 .

 كما تتلاقح اللغة الأسطورية مع الموروث الشعبي الجزائري في أشعار يرددها سعد وبعض الشخصيات الأخرى، تستعيد بعض ملامح السيرة الشعبية وتعيد بناء الأسطورة وقد انبعثت من جديد.

     إن رواية "الشجرة التي هبطت من السماء" لا تكشف أسرارها بيسر للقارئ، رغم  جمالية اللغة وحضور التشويق والمتعة والدهشة التي تولدها . وكأنها تدعو القارئ إلى الإبحار أولا  في عالم الأساطير وتملك مفاتيحه حتى يتسنى له فهم عالم الرواية وتأويل أبعادها. أو كأن الكاتب أراد "إيصال رسالته إلى القلوب والمشاعر لا إلى العقول والأذهان ". لقد أدرك عز الدين جلاوجي قدرة الأسطورة على الترميز وبث صور القداسة والجمال على العالم الذي تنشئه، فاستثمرها في بناء روايته وتحويل شخصية حيزية التاريخية إلى نموذج أول، ليبدع بذلك أسطورته الخاصة، أو لخلق  نماذج مثالية لمجتمع جديد.

الإحالات:

عزالدين جلاوجي :الشجرة التي هبطت من السماء، دار المنتهي للنشر، ط1، 2024

 سناء شعلان: الأسطورة في أدب نجيب محفوظ، نادي الجسرة الثقافي، د.ت.ص 27

ميرسيا إيلياد: الأساطير والأحلام والأسرار، ترجمة  حسيب كاسوحة، منشورات وزارة الثقافة، سوريا 2004، ص15

فراس السواح: لغز عشتار، مؤسسة هنداوي، 2017، ص 34.

ميرسيا إيلياد : م.ن. ص29