الأسطوري والشعري يوهمان الإنسان بامتلاك السلطة على الأشياء

عبدالناصر حسن يؤكد في كتابه "صانع الأسطورة في الشعر العربي الحديث" أن علاقة الشعر بالأسطورة علاقة موغلة في القدم.
أشكال الأسطوري والملحمي والشعري يربطها ذلك الاتصال الروحي العميق الحافل بالتجارب الإنسانية بكل أسرارها وبواعثها النفسية والجمالية
النص الأدبي الذي يتضمن الأسطورة الأدبية يختلف من مؤلف إلى مؤلف آخر

القاهرة ـ من أحمد مروان

الفكر الأسطوري مشاع لكل البشر ولكل الحضارات والثقافات على تنوعها، ولكل المعارف الإنسانية التي تناولت الأسطورة أو تماست معها بدءاً من الفنون البصرية والسمعية والكتابية وانتهاء بعلوم مثل الأنثروبولوجيا.
وفي كتابه "صانع الأسطورة في الشعر العربي الحديث" يؤكد الناقد الأكاديمي عبدالناصر حسن  أن علاقة الشعر بالأسطورة علاقة موغلة في القدم، حيث التقى الشعر بالملاحم البابلية والإغريقية والسومرية والفرعونية مثل إيزيس وأوزوريس ومثل الإلياذة والأوديسة وملحمة جلجامش وغيرها. إن هناك مع كل حال ارتباطاً واضحاً بين تلك التراتيل والابتهالات الدينية التي كان يقوم بها الكهنة في المعابد وتلك الأشعار الشعبية التي كان يرددها المنشدون في المناسبات الدينية المختلفة، وبين التجربة الشعرية ذات السمات الروحية والجمالية بالغة الأثر.
وفي هذا ما يؤكد أن أشكال الأسطوري والملحمي والشعري كلها أشكال يربطها ذلك الاتصال الروحي العميق الحافل بالتجارب الإنسانية بكل أسرارها وبواعثها النفسية والجمالية، ولا غرابة بعد ذلك في عودة الشاعر المعاصر إلى تلك التجارب الأسطورية في الشعر، وإنها لعودة حقيقية لمصادر التجارب الإنسانية الأولى في تاريخ البشر ومحاولة التعبير عن امتداداتها في عصرنا الراهن بوسائل مبتكرة تجعلها تقع دائماً بين الحقيقة والخيال الأدبي الخلّاق. إن كلاً من الأسطوري والشعري يوهمان الإنسان بامتلاك السلطة على الأشياء إذ اللغة لدى صانعي الأسطورة ليست أداة اتصال فحسب بل هي أداة سحرية للسيطرة على الأشياء والكائنات.

الأسطورة تنفث في الإنسان ما يكسبه القدرة على استدعاء القديم والمزج بينه وبين الرؤية الحديثة له، ثم يتجاوز المبدع ذلك بمحاولاته المستمرة في العصر الحديث لأن يصنع أسطورته الخاصة

الأسطورة إذن، هي تأريخ ما حدث في ذلك الزمان، و"قول" أسطورة هو إعلان ما حدث في الأصل، وهي إذا قيلت فمعنى ذلك أنه وحي بها تصبح حقيقة قائمة بذاتها، تؤسس الحقيقة المطلقة، "إنه هكذا لأنه قيل إنه هكذا".
ويرى المؤلف أن الأسطورة في عبورها أو تقاطعها للأزمنة تعد في النهاية محاولة متبصرة وخيالية، لتفسير الظواهر الحقيقية أو المفترضة التي تثير فضول واضع الأسطورة، أو هي مسعى لبلوغ الإحساس بالإشباع بإزاء الحيرة القلقة في مواجهة أمثال تلك الظواهر .
كذلك توجد علاقة عامة وثيقة بين الأسطورة والتاريخ، لأن كل أسطورة تُروى بشكل أو بآخر تاريخاً على حد تعبير شتراوس. وبما أن "الأساطير تشكل عند إنسان المجتمعات البدائية تاريخه المقدس، كان عليه أن يحاذر من نسيانها".
وأياً ما كان الأمر فإن العلاقة بين التاريخ والأساطير تكتسب دائماً طابعاً جدلياً بحيث يمكننا القول مع بعض الباحثين في الأساطير: إن الأسطورة هي التاريخ الذي لا نصدقه، وأن التاريخ هو الأسطورة التي نصدقها".
وإذا كان الفكر الأسطوري هو نتاج المخيلة الإنسانية فهو بكل تأكيد مشاع لكل البشر ولكل الحضارات والثقافات على تنوعها، ولكل المعارف الإنسانية التي تناولت الأسطورة أو تماست معها على نحو من الأنحاء بدءاً من الفنون البصرية والسمعية والكتابية وانتهاء بعلوم مثل الأنثروبولوجيا.
والسؤال: هل بوسعنا القول إن هناك أسطورة تاريخية قديمة وأسطورة أخرى أدبية أو فنية؟ يجيب المؤلف: إن المتأمل في مثل هذه الفكرة لا بد أن ينتهي به الأمر إلى الإقرار بوجود أسطورة أدبية أو فنية مغايرة كل المغايرة للأسطورة في صورتها القديمة، إن هذا التصور لا ينكر بحال من الأحوال ما للأسطورة والأدب من صلات وروابط مغرقة في القدم، ولا غرابة بعد ذلك أن نكتشف وجود مصطلح يدل على ما يمكن أن نسميه الأسطورة الأدبية، ولا شك أن هناك فروقاً واضحة تجعلنا مطمئنين عند التفريق بين الشكل الأولي للأسطورة وبين ما نسميه هنا الأسطورة الأدبية.
فإذا كانت الأسطورة كماً سردياً، فالأسطورة الأدبية هي كم سردي، وكيف فني، وكيف إبداعي، كما تختلف الأسطورة الأدبية من حيث المجال الذي تتكون فيه، إذ لا تكون الأسطورة إلا عن طريق الحكي أو السرد، أما الأسطورة الأدبية فنجدها في مجالات عديدة: المسرح، والموسيقى، والأدب. وقد تتبنى الأسطورة جماعة، ولا نعرف مؤلفها، بينما تكون الأسطورة الأدبية - على العكس - معروفة المؤلف في كثير من الأحيان لأن إنتاجها فردي، وهذا ما يفقدها قداستها الجماعية، التي تلتف حول الأسطورة وتتبناها. 

طابع جدلي
الأسطورة هي التاريخ الذي لا نصدقه

ومن جهة أخرى، قد يختلف النص الأدبي الذي يتضمن الأسطورة الأدبية من مؤلف إلى مؤلف آخر، ومن هنا فإن قوة المبدع صانع الأسطورة تكمن في المقام الأول في اللغة واستخداماته الفنية لها فهي بالتأكيد لغة تختلف بشكل كبير من حيث الرمزية والإيحاء والكثافة والقدرة على الإثارة لامتلاكها شحنة من الأحاسيس والعواطف تتمكن من خلالها أن تقرع الصمت وتبث الحياة بل لنقل إنها تنفث في الإنسان ما يكسبه القدرة على استدعاء القديم والمزج بينه وبين الرؤية الحديثة له، ثم يتجاوز المبدع ذلك بمحاولاته المستمرة في العصر الحديث لأن يصنع أسطورته الخاصة.
وقد ضم الكتاب بين دفتيه مجموعة من الأبحاث تمحورت حول موضوع الشعر والأسطورة منها: "لارا" و"عائشة" عند البياتي صانع الأسطورة – أدونيس صانع الأسطورة قراءة في ديوانه: "أغاني مهيار الدمشقي"، أسطورة البعث في قصيدة "لعازر 1962" للشاعر خليل حاوي، عبدالمنعم عواد يوسف وأسطورية الشيخ نصر الدين، محمد سليمان وأسطورة الذات، جميلة بوحيرد والأسطورة القومية، صلاح عبدالصبور وصناعة الأسطورة في الشعر العربي الحديث .
يذكر أن كتاب "صانع الأسطورة في الشعر العربي الحديث" صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة .(وكالة الصحافة العربية)