الأمكنة الفلسطينية تزدحم مثل شموس في روايات يحيى يخلف

شخوص الروائي الفلسطيني تواجه واقعها المأزوم وحالة الاغتراب القسري التي تعيشها باجترار حكايات من الماضي أو بالحلم لتستعيد توازنا مفقودا.
لا وجود لأماكن متخيلة في روايات يحيى يخلف
المخيم ليس مجرد مكان مؤقت بل رمز للوجود الفلسطيني
الروايات حفلت بالأمكنة المغلقة مثل البيت والمقهى والسجن والمعسكر والمستشفى

القاهرة - من أحمد رجب
كل إنسان وطن يعيش فيه، لكن الفلسطيني يحمل وطنه في قلبه، فمن يعيش في المنفى قسرا، ينسج في ذاكرته وطنا متخيلا، يحيا على أمل العودة إليه، ويرسم له صورا تحفظها الذاكرة، يستدعيها كلما هاج الحنين واستبد، مما أوجد عنده ارتباطا شعوريا دائما بالمكان.
 فالصراع بين الفلسطيني وعدوه الصهيوني هو صراع على المكان، والمكان بالنسبة للفلسطيني هو الوطن السليب، الذي يسعى لاستعادته باعتباره فضاء للهوية، لهذا حضر المكان بقوة في الرواية الفلسطينية، فهو في الرواية كما هو في الحياة يتبادل الأدوار مع  الشخصيات، التي تحمله في داخلها بينما هو يحتويها.
وفي روايات يحيى يخلف تواجه شخوصه واقعها المأزوم وحالة الاغتراب القسري التي تعيشها باجترار حكايات من الماضي أو بالحلم، ذلك لتستعيد توازنا مفقودا.
شعرية الأمكنة
خمسون عاما تفصل بين صدور روايته الأولى "نجران تحت الصفر" 1967، والعاشرة "اليد الدافئة" 2017، لم يكف خلالها يحيي يخلف عن البحث عن أشكال للكتابة تناسب أحوال الشخصيات وما تمر به من أهوال. وقد حظيت تجربته الإبداعية باهتمام نقاد ودارسين منهم الدكتورة عالية الصفدي في كتابها "شعرية الأمكنة في روايات يحيي يخلف"، الصادر حديثا عن دار المعتز بعمان.

يحيى يخلف
المكان يشارك الإنسان البطولة في الواقع وفي الادب

تخلص الدراسة إلى تصوير روايات يحيي يخلف للمكان المرجعي الحقيقي فلا وجود عنده لأماكن متخيلة، حتى عناوينه احتفت بالمكان مثل "نجران تحت الصفر"، و "نهر يستحم في بحيرة"، و"بحيرة وراء الريح" كذلك كان للمكان الفلسطيني حضورا واضحا في إبداعات يخلف.
والكاتب يوظف المكان في رواياته ليحمل دلالات خاصة تتعلق بكونه مكانا مفقودا يقابله المنفى، والمخيم بما فيهما من عذابات تعانيها الشخوص. فحتى لو كانت الشخصيات تعيش في المنفى فإنها تعتمد في  تصويرها للمكان على الذاكرة المشحونة بصور متعددة وأنماط مختلفة له. وفي روايات يخلف أمكنة مرجعية محددة بمناطق معروفة ذات وجود واقعي، لكنها خضعت لانتقاء دقيق من جانب الروائي حتى تتمكن من حمل ما يريد من دلالات.  ويعتبر يحيي يخلف واحدا من الروائيين الذين يستطيعون التمييز بين الوطن السياسي والوطن الروائي، فتمكنوا من التعبير عن مآسي التهجير ببعدها الإنساني. وقد تعمق في أمكنته سواء كانت مفتوحة أم مغلقة، مدركا العلاقة بينها وبين الزمان  والشخوص.
صورة المدينة
ليست المدينة مجرد جزء من المجتمع، بل هي البوتقة المستوعبة لنتاج اختلاط الشعوب والأعراق وامتزاج ثقافاتهم، وفي روايته الأولى "نجران تحت الصفر" احتفى يخلف بالمدينة، التى وصفها الضابط بأنها مخيفة وذات أسنان حادة، كذلك يراها شخص آخر "قاسية وبلا قلب، نجران زوجة أب ظالمة"، بينما يرى كمال الغزاوي أن الحرب الطاحنة التي تشهدها المدينة بين الجمهوريين والملكيين في جوهرها معركة الرجعية ضد التقدم، ويرى أن تخلف المدينة من أسباب ضياع فلسطين.
وفي رواية "تفاح المجانين" يصف مخيم إربد في شمال الأردن بأنه "بقعة من بلاد الغربة والشتات"، وفي "نشيد الحياة" نجد بيروت – من وجهة نظر الراوي- مركزا للثورة لذلك تحاصرها إسرائيل، وفي "بحيرة وراء الريح" نرى من خلال أوراق عبدالرحمن العراقي المتطوع في جيش الإنقاذ، صورة بغداد فترة نوري السعيد. وتصور الرواية طبريا ومدنا فلسطينية أخرى، ومحاولات تصديها لهجمات الصهاينة المدججين بالسلاح الإنكليزي، ملتقطا بدايات رحلة الشتات والغربة.

يحيى يخلف
توثيق غزير للأمكنة

كذلك نجد لأريحا حضورا طاغيا في رواية "نهر يستحم في البحيرة" التي تزدحم بالمدن، بين مدن يزورونها وأخرى يمرون عليها في مساراتهم، أو مدن تزورهم من خلال الذاكرة المشحونة بالتفاصيل، وهكذا اختلفت أشكال حضور المدينة في روايات يحيي يخلف، لكن في "تلك الليلة الطويلة" تشكلت صورة المدينة من حوارات الشخوص أو من خيالاتهم.
المخيم والبحيرة
المخيم ظاهرة مكانية جديدة فرضتها النكبة، وتشترك كل المخيمات برغم اختلاف أماكن وجودها في كونها تجسد اغتراب الفلسطيني وما يتعرض له من قهر، فانتقلت من الجغرافيا للأدب. وفي روايات يخلف يصوغ المخيم شخصيات ساكنيه، ويحدد نمط حياتهم، ويشكل علاقاتهم وفقا لعرف اجتماعي خاص كما نجد في روايتيه "نشيد الحياة" و"تفاح المجانين"، حتى في نجران تحت الصفر حضر المخيم عبر ذكريات كمال الغزاوي إذ ذكرته به بيوت الصفيح في نجران.
ويلاحظ القارىء لروايات يحيي يخلف أن نظرته للمخيم واقعية ترتبط بالفقر والجوع وانتظار امدادات وكالة غوث اللاجئين، لكنه يكن مجرد مكان مؤقت للإقامة بل يصوره كرمز للوجود الفلسطيني، ومركز لانطلاق المقاومة.
كانت بحيرة طبرية فضاء لرواية "بحيرة وراء الريح" حيث قدمها الروائي كقيمة مفتقدة لدى الجماعة، فواحد يحلم بها، وآخر يصفها بما يشي بقلقه وتوجسه، بينما تصفها امرأة تعمل بالصيد بأنها مثل الشمس وبأنها أم الحياة، لذا يصفها الروائي من وجهة نظرها وصفا جماليا "كانت مياة البحيرة شديدة الزرقة، كانت صفحة الماء رقيقة ناعمة كبطن غزالة"، بينما في الختام يناجي الراوى البحيرة قبل أن يبتعد عنها من خلال دموعه في إشارة إلى بداية التغريبة الفلسطينية.
 ويتكرر ذكر البحيرة في "نهر يستحم في البحيرة" مظهرا تعلق الراوي العائد بالبحيرة، ففي الرواية التي تؤرخ الرواية فنيا للحالة الفلسطينية عقب اتفاق أوسلو، فالراوي وهو في طريق عودته للبحيرة يستعيدها بتذكر الرائحة الـ"قادمة من ستة وأربعين عاما"، وفي حديثه عنها يستعيد مشاهدا وردت في "بحيرة وراء الريح"، كما رصد مظاهر التغير التي طالت المكان.
البيت والسجن

يحيى يخلف
المخيم بطلا لتفاح المجانين

لاحظت الكاتبة أن روايات يحيي يخلف حفلت بالأمكنة المغلقة مثل البيت والمقهى والسجن والمعسكر والمستشفى، وتتقارب أو تتباعد صور هذه الأمكنة تبعا لاختلاف موضوع الرواية. فمثلا في "نجران تحت الصفر" لم يقف عند البيت كثيرا، ولم يهتم بوصفه، بل يرد ذكره في جملة عابرة مثل "صمتت بيوت نجران"، بينما في "تفاح المجانين" نرى البيت بصورة مغايرة، فقد أراده مجرد مكان للنوم أو لتناول الطعام، لذا وصفه بأنه "حوش يغص بالمستأجرين"، وفي "نشيد الحياة" يفتقر البيت إلى أبسط المرافق في إشارة إلى بؤس أحوال ساكنيه، وتتناثر عبر الصفحات إشارات مقتضبة للبيوت يساعد تجميعها على تأويل النص وفي بيان التأثيرات المتبادلة بين الأماكن وساكنيها، وفي "بحيرة وراء الريح" كان للبيت حضور كبير وكان لموقعه بالقرب من اليهود في مستوطنة أوفكيم دلالة على افتقاد الأمان، أما وصف الروائي لمحتويات البيوت فقد اقتصر على ما تتطلبه الضرورة الفنية، مثلا للمقارنة بين حاضر الشخصية وماضيها، أو لبيان المستوى الاجتماعي والاقتصادي للشخصية.
أما السجن، وسواء كان سياسيا أم لأسباب أخرى فهو فضاء للقهر واستلاب الحرية، ولم يصوره يحيي يخلف إلا في روايتيه الأولتين، ففي نجران تحت الصفر كان مكانا رئيسا ليلائم موضوعها، وجسدته الرواية سواء من خلال الوصف أو ذكريات الشخصيات وأحاديثهم المتبادلة، أما في تفاح المجانين فكان المخفر مكانا موازيا للسجن، فهو لم يحقق الحماية للشخوص بل قمع حرياتهم ومارس العنف ضدهم، وكان سجنا للخال عمران بعد خروجه من سجن الاحتلال فكأن مخفر المنفى امتداد لسجن الاحتلال، وفي الروايات التالية غابت السلطة فغاب السجن، وبدت المخيمات كلها كسجون كبيرة. (وكالة الصحافة العربية)