التدخل التركي في منطقة الشرق الأوسط
تُعد العلاقات بين مصر وتركيا من أبرز العلاقات الثنائية تأثيرًا في منطقة الشرق الأوسط، نظرًا لما يجمع البلدين من روابط تاريخية وثقافية، ومصالح جيوسياسية متداخلة. غير أن هذه العلاقات شهدت تقلبات حادة خلال العقد الأخير، خاصة بعد عام 2013، حيث تحوّلت من التعاون الوثيق إلى القطيعة الدبلوماسية، ثم إلى محاولات تطبيع حذرة.
في كتابها "التدخل التركي في منطقة الشرق الأوسط"، الصادر عن دار العربي، تقدّم الدكتورة جيهان عبدالسلام عوض، مديرة تحرير جريدة الأهرام، تحليلًا معمقًا للسياسات الخارجية التركية، مع تركيز خاص على علاقتها بمصر. يتناول الكتاب التدخل التركي في عدد من الدول، منها مصر، ليبيا، سوريا، وإسرائيل، ويستعرض السياقات والدوافع والأهداف التي تحكم السياسة الخارجية التركية في العقدين الأخيرين، خاصة في ظل حكم حزب العدالة والتنمية.
تشير المؤلفة إلى أن العلاقات بين القاهرة وأنقرة بدأت تتخذ منحى إيجابيًا خلال السنوات الأولى من "الربيع العربي"، وتحديدًا أثناء حكم الرئيس المصري الراحل محمد مرسي (2012-2013)، الذي حظي بدعم قوي من القيادة التركية، وعلى رأسها رجب طيب أردوغان. رأت تركيا في حكم الإخوان المسلمين فرصة استراتيجية لتعزيز نفوذها الإقليمي، عبر حلف أيديولوجي وسياسي مع الحركات الإسلامية الصاعدة.
ومع ذلك، شكّل عزل مرسي في يوليو 2013 من قبل القوات المسلحة المصرية بقيادة الفريق أول عبد الفتاح السيسي، بداية مرحلة من التوتر الحاد. فقد اعتبرت تركيا ما حدث "انقلابًا عسكريًا"، وعبّرت عن رفضها العلني له، متهمة النظام الجديد في مصر بانتهاك إرادة الشعب.
توضح المؤلفة أن مرحلة التوتر والصدام (2013 – 2020) بين البلدين لم تقتصر على التصريحات، بل تحول إلى خلافات سياسية ودبلوماسية حادة. حيث واصلت تركيا دعم جماعة الإخوان المسلمين، ووفّرت ملاذًا آمنًا لعدد من قياداتها، بل ومنحت الجنسية التركية لعدد منهم، مثل ياسر العمدة، الذي أعلن حصوله على الجنسية عبر مواقع التواصل.
كما سمحت السلطات التركية لقنوات معارضة تبث من إسطنبول، مثل "الشرق" و"مكملين"، بشن حملات إعلامية ضد النظام المصري، وهو ما اعتبرته القاهرة تدخلاً سافرًا في شؤونها الداخلية. كرد فعل، خفّضت مصر مستوى التمثيل الدبلوماسي، واستدعت القائم بالأعمال التركي عدة مرات، خاصة بعد تصريحات أردوغان حول وفاة محمد مرسي في السجن عام 2019، والتي وصفتها مصر بأنها "واهية وباطلة، ظاهرها الدفاع عن العدالة، وباطنها كراهية تجاه الشعب المصري".
ترى المؤلفة أن الانعطافة في العلاقات بين البلدين بدأت بالظهور مع بدايات عام 2021، مدفوعة بجملة من العوامل: أولا تغيّر الإدارة الأمريكية: وصول إدارة بايدن، وتراجع العلاقات التركية الأمريكية، دفع أنقرة للبحث عن تقارب مع خصوم الأمس، وفي مقدمتهم القاهرة، بهدف كسر عزلتها الإقليمية والدولية. ثانيا انكشاف سياسة "تصدير الإسلام السياسي":بعد فشل رهان تركيا على الحركات الإسلامية في عدد من الدول، أدركت القيادة التركية أن نهجها الأيديولوجي في السياسة الخارجية لم يعد فعالًا، خاصة بعد الانتكاسات التي مُنيت بها هذه الحركات في مصر وتونس والسودان. ثالثا الضغوط الاقتصادية الداخلية:
تعاني تركيا من أزمة اقتصادية حادة، دفعتها إلى السعي لتوسيع شراكاتها التجارية مع دول محورية، مثل مصر. وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين نحو 5 مليارات دولار في 2024، وهو ما يُظهر الأهمية الاقتصادية للتقارب. رابعا تأثير المصالحة الخليجية (2021): بعد توقيع اتفاق العلا، وتراجع حدة الخلاف بين قطر والدول الأربع (مصر، السعودية، الإمارات، البحرين)، لم يعد من المجدي لأنقرة الاستمرار في المواجهة مع القاهرة.
وتتبع مسار التطبيع الحذر (2021 – 2025) حيث رأت أنه مع بداية 2021، بدأت مؤشرات إيجابية تظهر في العلاقات. أعلنت تركيا عن فتح قنوات تواصل مع مصر "دون شروط مسبقة"، كما قام وزير خارجيتها مولود جاويش أوغلو بزيارات رسمية. وبلغت ذروة هذا التقارب في سبتمبر 2024 حين زار الرئيس عبد الفتاح السيسي تركيا للمرة الأولى منذ عزل مرسي، حيث تم الإعلان عن تشكيل مجلس التعاون الاستراتيجي بين البلدين، يعكس التزامًا سياسيًا بتطوير العلاقات في مجالات الأمن والطاقة والسياحة.
غير أن المؤلفة تؤكد أن هذا التقارب ما زال "مشروطًا"، حيث تصر مصر على ضرورة احترام سيادتها الداخلية، ووقف دعم الجماعات التي تصنفها إرهابية، وعلى رأسها الإخوان المسلمون. كما تطالب القاهرة بتسليم شخصيات مطلوبة مثل يحيى موسى وعلاء السماحي، وهو ما تتحفظ عليه أنقرة، معتبرة الجماعة كيانًا سياسيًا لا إرهابيًا.
وتُفرد المؤلفة مساحة مهمة لتناول الأثر الإقليمي لتداعيات إقليمية للتقارب المصري التركي ، خاصة في الملفات الساخنة: أولا ليبيا: حيث دعمت تركيا حكومة الوفاق، بينما وقفت مصر إلى جانب قوات المشير خليفة حفتر. ومع ذلك، هناك بوادر لتنسيق سياسي بين الجانبين لدعم تسوية شاملة تقود إلى الاستقرار، وهو ما يُعد تطورًا لافتًا. ثانيا سوريا فعلى رغم أن المواقف لا تزال متباينة، إلا أن التعاون بين البلدين قد يُسهم في دعم عمليات مكافحة الإرهاب، خاصة بعد سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، وما تبعه من فراغ أمني. ثالثا شرق المتوسط حيث أن لدى البلدين مصالح متداخلة في ملف الطاقة واستكشاف الغاز، وهو ما قد يحفز على صياغة تفاهمات بحرية جديدة، بعيدًا عن التحالفات الإقصائية السابقة.
تُبرز المؤلفة أن ملف الإخوان لا يزال يشكّل عُقدة رئيسية. ورغم محاولات تركيا ضبط خطاب القنوات المعادية لمصر، إلا أن القاهرة لا ترى في ذلك كافيًا، وتعتبر أن التقدم في العلاقات رهين بخطوات ملموسة. بالمقابل، تُوظف تركيا هذا الملف كأداة ضغط تفاوضي، لكنها تخشى أيضًا من تبعات التخلي الكامل عن الجماعة، سواء داخليًا أو على مستوى علاقاتها مع أطراف إقليمية مثل قطر.
وحول رؤيتها للسيناريوهات المستقبلية لمسار العلاقات بين البلدين تطرح المؤلفة ثلاثة سيناريوهات متوقعة: أولا استمرار التطبيع الجزئي: عبر التركيز على التعاون الاقتصادي والدبلوماسي، مع الإبقاء على الخلافات الجوهرية دون حسم. ثانيا تطبيع شامل مشروط: يعتمد على توافق صريح بشأن قضايا الأمن القومي، وتسوية ملف الإخوان بشكل يرضي الطرفين. ثالثا انتكاسة محتملة: نتيجة تفجّر إحدى الملفات الحساسة، مثل التدخل في ليبيا، أو تصعيد إعلامي جديد، ما قد يعيد العلاقات إلى حالة الجفاء.
ترى المؤلفة في الخاتمة أن العلاقات المصرية التركية مرشحة للتطور، لكنها ستبقى عرضة للتأثر بتقلبات السياق الإقليمي والدولي. فبينما تدفع المصالح الاقتصادية والضغوط الدولية باتجاه الانفتاح، تظل الخلافات الأيديولوجية والملفات الأمنية الكبرى، مثل الإخوان وليبيا، بمثابة ألغام قابلة للتفجير في أي لحظة. من هنا، فإن استدامة هذا التقارب تتطلب إرادة سياسية واضحة، ومقاربات واقعية، تعلي من شأن المصالح المشتركة على حساب الصراعات العقائدية.