باتريك كاباندا يعيد تخيل 'الثروة الإبداعية للأمم'

الكاتب الأوغاندي يرى أن الإبداع والثقافة ليسا كماليات بل موارد تنموية مستدامة قادرة على إحياء الاقتصادات وتعزيز التماسك الاجتماعي ويقدم من نوليوود إلى رواندا الرقمية رؤية جريئة لإعادة تعريف الثروة والتنمية من منظور إنساني وإبداعي شامل.

في زمن تسيطر فيه العولمة والتحديات الاقتصادية على المشهد العالمي، يأتي كتاب "الثروة الإبداعية للأمم" لباتريك كاباندا، بترجمة د.شاكر عبد الحميد، كدعوة ملهمة لإعادة تصور جوهر التنمية والثروة. يقدم الكتاب رؤية عميقة ترى في الإبداع البشري والثقافة قوتين مركزيتين قادرتين على إعادة تشكيل الاقتصادات، بناء المجتمعات، وشفاء الأفراد.

من خلال تحليل فكري دقيق وأمثلة مدهشة مثل صعود نوليوود النيجيرية أو دور الفنون في إعادة إحياء رواندا ما بعد الإبادة، يبرز كاباندا الإبداع كمورد لا ينضب ينتظر الاستثمار الواعي لدفع تنمية مستدامة. يتجاوز الكتاب الاقتصاد التقليدي ليستكشف كيف يمكن للفنون تعزيز التماسك المجتمعي، الحفاظ على الهوية في عصر العولمة، وفتح آفاق جديدة في الفضاء الرقمي، مع مواجهة تحديات مثل نقص التمويل والقرصنة بحلول مبتكرة. إنه مشروع فكري يحثنا على رؤية الثروة الحقيقية في جودة الحياة، الخيال الإبداعي، والمجتمعات المتصلة، داعيًا الدول، خاصة النامية، لتحويل تراثها الثقافي إلى بذرة لمستقبل مزدهر.

في هذا العمل الفكري لا يكتفي كاباندا بالتحليل الأكاديمي الجاف، بل يقدم رؤية ثورية تدعو إلى إعادة تعريف جذرية لمفهوم الثروة والتنمية. فالثقافة والإبداع، في منظور كاباندا، ليسا مجرد زخارف لحياة البشر، بل هما قوة اقتصادية كامنة وعامل تنموي أساسي ينتظر من يكتشفه ويستثمره. يرسم كاباندا خريطة تنموية جديدة تقوم على فكرة محورية: أن الإبداع البشري يمثل المورد الأكثر استدامة والأقل استغلالاً في عصرنا الحالي. وهو لا يقدم هذه الفكرة كنظرية مجردة، بل يدعمها بأمثلة واقعية دامغة.

خذ مثلاً حالة نيجيريا، حيث تحولت صناعة السينما المحلية من نشاط هامشي إلى ظاهرة عالمية تحت مسمى "نوليوود"، متفوقةً في عدد الأفلام المنتجة على هوليوود ذاتها، رغم ضآلة الميزانيات وعدم كفاية البنية التحتية. هذه الظاهرة لم تخلق آلاف الفرص الوظيفية فحسب، بل أسست لاقتصاد موازٍ يشمل مجالات التوزيع والتسويق وحتى صناعة المعدات السينمائية محلياً.

في معرض حديثه عن رواندا، يقدم كاباندا نموذجاً ملهماً لدور الفنون في إعادة بناء المجتمعات المنقسمة. فبعد الإبادة الجماعية عام 1994، تحولت الفنون في رواندا من نشاط ثقافي هامشي إلى أداة حيوية للشفاء الوطني وإعادة البناء الاجتماعي. حيث يشدد على أن الفنون - ولا سيما المسرح التشاركي والرسم العلاجي - لعبت دوراً محورياً في مساعدة الناجين من الحرب الأهلية في رواندا على تجاوز الصدمات النفسية العميقة. فقد وفرت هذه الممارسات الإبداعية مساحة آمنة للتعبير عن الألم وفقدان الأحباء، كما ساهمت في إعادة بناء الثقة بين الضحايا والجناة من خلال ورش العمل الفنية المشتركة. ويلفت كاباندا النظر إلى كيف ساعدت الفنون في تحويل الذاكرة المؤلمة إلى إبداع مثمر، من خلال المتاحف الفنية والنصب التذكارية التي تحفظ الذكرى دون إثارة العنف. كما يبرز كيف تحولت بعض المجموعات الفنية إلى تعاونيات إنتاجية، مما يجسد ذلك التحول من الفن كوسيلة علاجية إلى الفن كمصدر للتنمية الاقتصادية. هذه التجربة الرواندية الفريدة، كما يخلص المؤلف، تثبت أن الإبداع الفني يمكن أن يكون حجر الزاوية في إعادة بناء الأمم بعد الصراعات، حيث يجمع بين الشفاء النفسي والتماسك الاجتماعي والنهوض الاقتصادي في آن واحد.

يستعرض كاباندا نماذج ناجحة مثل مدينة ناشفيل الأمريكية التي تحولت بفضل استثمارها في الإبداع الموسيقي إلى عاصمة عالمية تساهم بمليارات الدولارات سنوياً في الاقتصاد المحلي. كما يحلل كاباندا العلاقة التكافلية بين الفنون والابتكار، مشيراً إلى أن الإبداع الفني يحفز التفكير الخلاق ويؤدي إلى حلول غير تقليدية للمشكلات، مستشهداً بالدور المحوري للفنون في تطوير التكنولوجيا كما تجسد في تجربة ستيف جوبز وشركة أبل. على الصعيد الاجتماعي، يسلط المؤلف الضوء على الدور التحويلي للفنون في تعزيز التماسك المجتمعي، موثقاً كيف ساهمت الموسيقى في كسر حواجز الفصل العنصري بجنوب أفريقيا، وكيف نجح برنامج "النظام" الموسيقي في فنزويلا في إدماج الأطفال المهمشين وإخراجهم من دائرة الإقصاء الاجتماعي. ومع ذلك، لا يغفل كاباندا التحديات الجسيمة التي تواجه القطاع الإبداعي في الدول النامية، بدءاً من ضعف البنية التحتية، مروراً بإهمال السياسات العامة، ووصولاً إلى مشكلة القرصنة التي تسلب الفنانين حقوقهم المادية والمعنوية.

يقدم الكاتب تحليلاً عميقاً للعلاقة المعقدة بين الإبداع والهوية في زمن العولمة. فكيف تحافظ المجتمعات على أصالتها الثقافية بينما تشارك في السوق العالمي؟ يجيب كاباندا عبر دراسة حالة فناني "الأفروبيت" في غانا، الذين ابتكروا مزيجاً موسيقياً فريداً يجذب المستمع العالمي دون أن يذوب في التيار السائد. هذا التوازن الدقيق بين الأصالة والمعاصرة هو ما يسميه المؤلف "التراث الحي" - ثقافة لا تتحجر في الماضي بل تتطور باستمرار مع الحفاظ على جوهرها. يخصص كاباندا في الكتاب فصلا بعنوان "فنون بلا حدود في العصر الرقمي" يسلط فيه الضوء على التحول الجذري الذي أحدثته التكنولوجيا الرقمية في المشهد الثقافي العالمي. فبينما كانت الصناعات الإبداعية التقليدية مقيدة بالحدود الجغرافية والقيود الاقتصادية، جاء العصر الرقمي ليفتح آفاقاً غير مسبوقة أمام المبدعين، خاصة في الدول النامية. حيث أصبحت المنصات الرقمية اليوم أداة تمكين حقيقية، تتيح للفنانين والموسيقيين والكتاب الوصول إلى جمهور عالمي دون الحاجة إلى وساطة المؤسسات التقليدية. يقدم كاباندا أمثلة دالة على ذلك، مثل موسيقيين من نيروبي وداكار نجحوا في تمويل مشاريعهم عبر منصات التمويل الجماعي، أو صانعي الأفلام في نيجيريا الذين انتقلوا من توزيع الأفلام على أقراص DVD إلى بثها عبر منصات رقمية مثل "إيرو"، مما وسع دائرة انتشارهم وزاد من عوائدهم المالية. كما يبرز كيف تحول "اليوتيوبرز" في أفريقيا إلى نجوم عالميين، يحققون دخولاً تفوق بكثير ما يمكن أن توفره لهم الوظائف التقليدية.

لكن كاباندا لا يغفل عن التحديات التي يفرضها هذا التحول، مثل أزمة الملكية الفكرية في الفضاء الرقمي، وهيمنة المنصات الكبرى التي قد تعيد إنتاج أشكال جديدة من التبعية الثقافية. كما يشير إلى الفجوة الرقمية التي تترك المبدعين في المناطق الريفية أو الفقيرة خارج دائرة الفرص المتاحة. ورغم هذه التحديات، يرى كاباندا في العصر الرقمي فرصة تاريخية لإعادة رسم خريطة الاقتصاد الإبداعي العالمي. فباستخدام تقنيات مثل البلوك تشين لحماية الحقوق، أو توظيف الذكاء الاصطناعي لدعم الإنتاج المحلي، يمكن للدول النامية أن تتحول من مستهلكة للثقافة إلى مشاركة فاعلة في صناعتها. وهكذا، يصبح الفضاء الرقمي ليس مجرد وسيط جديد، بل ساحة لتحقيق الديمقراطية الثقافية الحقيقية، حيث يصبح الإبداع حقاً متاحاً للجميع، بلا حدود.

لكن الطريق نحو "الاقتصاد الإبداعي" ليس مفروشاً بالورود. يكشف كاباندا عن معضلات أساسية تواجه هذا النموذج التنموي، أولها مشكلة التمويل حيث تتردد المؤسسات المالية التقليدية في استثمار أموالها في المشاريع الثقافية التي تراها عالية المخاطر. ثم هناك إشكالية الملكية الفكرية، حيث تُنهب إبداعات المجتمعات المحلية من قبل شركات عالمية دون مقابل يذكر للمبدعين الأصليين. وأخيراً، التحدي السياسي المتمثل في خوف بعض الحكومات من تحول الفنانين إلى صوت معارض، مما يدفعها إلى قمع الإبداع بدلاً من احتضانه. الحلول التي يقترحها المؤلف لهذه التحديات تجمع بين الواقعية والجرأة. فهو يدعو إلى إنشاء صناديق استثمار خاصة بالمشاريع الإبداعية، تكون أكثر مرونة من البنوك التقليدية في تقييم الجدوى. ويقترح نظاماً مبتكراً لحماية الملكية الفكرية الجماعية التي تعكس تراث مجتمعات بأكملها. كما يطالب بإصلاحات تعليمية جذرية تنتقل من النموذج التلقيني إلى تعليم يعزز التفكير النقدي والإبداعي منذ المراحل المبكرة.

يشير المؤلف إلى أن الفكرة الأساسية التي ينطلق منها الكتاب تقوم على أن الفنون والثقافة ليستا من الكماليات، بل هما عنصران جوهريان في عملية التنمية الشاملة. فإذا تمكنت الأمم من تفعيل ثروتها الإبداعية بشكل كامل، فإنها ستجني مكاسب مادية وغير مادية كبيرة. ويوضح هذا المبدأ من خلال حوار تخيلي بين مدافع عن الفنون وخبير تنمية داخل منظمة مثل البنك الدولي، حيث يبرز التناقض بين الرؤيتين. يعدد كاباندا ثلاث طرق رئيسية تسهم بها الثقافة في التنمية: أولاً عبر توليد نشاط اقتصادي مباشر من خلال العروض وتبادل السلع والخدمات الثقافية؛ ثانياً عبر تحرير الخيال الإنساني وتنميته؛ ثالثاً عبر تعزيز التضامن الاجتماعي والشمولية والتعاون المجتمعي. ويلفت إلى أن التجارة العالمية في المنتجات الثقافية يمكن أن تكون بوابة لدخول دول الجنوب إلى الأسواق العالمية، مستشهداً بالمبدأ القديم "حيث تقود الثقافة، تتبعها التجارة".

يؤكد الكتاب أن النمو الاقتصادي الحديث يعتمد بشكل أساسي على الإبداع والابتكار. وبما أن الفنون هي الحاضنة الرئيسية للخيال الإبداعي، فإنها تشكل عاملاً حاسماً في تنشيط مجالات التعليم وريادة الأعمال والتجارة والبحث العلمي. فالفنون لا تقتصر على تقديم طرق تفكير جديدة، بل تدفعنا إلى توسيع آفاقنا الذهنية، وتشجعنا على العمل الجماعي، وتعلمنا الاعتراف بالأخطاء والاستفادة منها، وتنمي فينا الصبر والتحمل وحب الاستطلاع. في خاتمة الكتاب، يشير كاباندا إلى أن سر التقدم لا يكمن في المعادلات الاقتصادية الجافة، بل في الخيال الإبداعي الذي يشكل أساس أي تطور حقيقي. هذه الرؤية التي تجسدها "كرييتفيريا" (الدولة الخيالية التي يستخدمها كمثال) تدعو إلى تعاون عابر للتخصصات وإرادة سياسية لتحويل الإبداع من نشاط نخبوي إلى محرك للتنمية الشاملة.

ربما تكون الفكرة الأكثر إثارة في الكتاب هي دعوة كاباندا إلى إعادة تعريف مفهوم الثروة ذاته. ففي عالم يقدس الناتج المحلي الإجمالي، يذكرنا أن الثروة الحقيقية لا تقاس بالدولارات وحدها، بل بجودة الحياة والتماسك الاجتماعي وفرص التعبير الإبداعي المتاحة. إنه يصور مجتمعاً تكون فيه الفنون لغة مشتركة تربط بين أفراده، لا نشاطاً نخبوياً معزولاً. "الثروة الإبداعية للأمم" ليس مجرد كتاب عن الاقتصاد أو الفنون، بل هو مشروع مستقبلي يعيد تعريف التنمية الحقيقية. إنه دعوة ملحة للدول، خاصة النامية منها، لترى في تراثها الثقافي وإبداع شعبها ليس ذاكرة للماضي فحسب، بل بذرة لمستقبل أكثر إشراقاً وازدهاراً. فالخيال الإبداعي، كما يؤكد كاباندا، ليس ترفاً بل ضرورة، ليس زينة للحياة بل أساس لها، ليس نشاطاً هامشياً بل قلب التنمية الحقيقية.