الأم .. عندما تخطئ عيناها

الشاعر إبراهيم يلدا اختار "الأم" معنى ووجودا ورمزا، موضعا اجتماعيا تاريخيا دينيا وروحيا كصورة ظاهرة على مدى الوجود.
الشاعر والأم الحضارية
هل المصلحة الذاتية سبب قوي للوجود؟

بقلم: عصمت شاهين دوسكي

يتخذ الشاعر إبراهيم يلدا في قصيدته "إذا أخطأت عيناك" من الوصف سبيلا إلى تناول النظم الفكرية والاجتماعية والسياسية في هجاء أو ذم أو عتاب للرؤى الإنسانية وقد اختار الشاعر ذو القلب الرقيق "الأم" معنى وجودا رمزا، موضعا اجتماعيا تاريخيا دينيا وروحيا كصورة ظاهرة على مدى الوجود، لأن الأم تختصر العالم الإنساني على اختلاف الأزمنة والأمكنة، الكثير منا لا يكتفي بالحزن الصامت ولا بالإعجاب المقتصد بل يفصل ويشرح ويروي. 
أما الشاعر بملكوته الشعري والفكري والروحي فهو يصف ما يحس  وما يشعر به  برؤية مختلفة حينما يرى الخطوب أمام عينيه، حيث يرى القوة المدهشة للأم التي تلازمها في كل وقت من أوقاتها على الرغم من الضعف الشديد الذي يلازم جسدها مع مرور الزمن فيجعل حياتها معلقة بين القوة والضعف، بين الإرادة والفتور، بين الأخذ العطاء، بين اليأس والرجاء، بين التضحية والعناء في كل طور من أطوار عمرها وحياتها تكلفها الأهوال والأعاجيب.
فيقف الناس حائرين مندهشين، يعجبون بهذه الأم التي تتحمل آلام الحياة وهم لا يدرون لم يعجبون؟ فقد كرّمها الرب منذ الأزل بالوجود فهي المثوى في غربة الحياة وهي الصبر النادر والذكاء العابر والجمال الباهر والصوت الساحر، والقوة التي لا حدود لها والأمل الذي لا يخشى اليأس ولا يحسب له حسبانا، والنفس التي لا مثيل لها، وليس كرم بعد كرمها، ولا وجود بعد وجودها .
"لا لن أنسى
   أول يوم في حياتي
   وأنا أتربع صدرك
   وحيث ذراعاك المتشابكتان
   لا لن أنسى 
   تلك الدمعة الساخنة
   التي جرت من عينيك
   وسقطت على وجنتي
   من فرط حبك لي وحنانك".
نلاحظ الوصف البديع والإحساس الرفيع الذي يبعث في كلماته الحب واللهفة والرقة والحياة ضامنا في داخل العبارات الحوار الفعلي للمناجاة، فهو رائد الشعر الحر باللغة السريانية يكشف بأسلوبه المميز عن الجمالية في الرؤى والفلسفة في العمق الفكري مثلما كانت هناك فلسفة خاصة في قصيدته "الموت والميلاد" هنا تتجلى فلسفة روحية حسية قدسية راقية من خلال الرمز "الأم" الذي تذوي كحبة السنبلة تحت التراب لتولد من جديد روحا وتضحية، فكرا وعطاء، حبا وعشقا، أمنا وسلاما، هذا الغزل الجميل غالب على عصر ماض وذكرى حاضرة "لا لن أنسى" تبقى ذكرياتها في قلبه رغم تغير المكان والزمان.
الشاعر لا يجرؤ على النسيان رغم "الأم التي يعنيها تسترسل في الآلام ويحس فيها" بألم لا يفارق قلبك "هذه الآلام لا يمكن معرفة جوهرها ولا يدرك سعة هذه العذابات والعبرات والمآسي والنكبات كونه" كنت صغيرا "حتى حينما يكبر ويجد المنافع الذاتية والشهوة عادية والإيذاء القاسي رغم الشقاء وصوت الأجراس، يمزق قلبه ويشرخ روحه في محراب الصمت الإنساني، كان حول هذه "الأم" وحوش مفترسة لارتكاب كل أنواع التناقضات والإرهاصات، فمن سيغفر لهذه "الأم" التي هي في الأصل نزيهة وليدة النقاء والصفاء، ترتقي بالفرد وتسمو على الرغم من بكائها المر وصمتها العميق الذي يترجم كل معاني الشقاء والرجاء، تلبي نداه إن ناداها، وتحضنه إن طلب حضنها، وإن ضاع في العالم لجأ اليها .
"حين كنت صغيرا
   كنت أحس بألم لا يفارق قلبك
   ولأني كنت صغيرا
   لم استطع أن أترجم ما يضمره قلبك
   ولم أعرف سبب بكائك المر
   وحين كبرت وسنوات صباي
   مع الزمن تحتسب
   وتثقل كاهل قلبي، كلماتك
   وهي تتراءى لي كسلسلة 
   تذكرني بأيام طفولتي
   ودمعة قديمة تنتصب أمام عيني".
 تغفر له وهو يعجز أن يغفر لها، أولادها امتطوا الشيطنة باسم الدين حينا وباسم الوطن حينا آخر إلى حد المخاطرة بالأرواح في سبيل المعتقدات والأفكار والكلمات تكاد لا تفقه شيئا من معانيها، حتى الذي يغضب إن كان سيغضب ليحميها، فهو لنمو إشارة ذاتية وليس ميلا إليها "فإن أراد أن يغضب" لأن المصلحة الذاتية تكون سببا قويا للوجود وهي السبب الوحيد في عمل الفرد دون أن يصل ليرويها.
ليست "الأم" من ساقت الغفير من الجموع إلى الأنانية وكؤوس الطبول الحربية ولا هي التي جعلتهم يتساقطون على عجل في الهاوية وتجرعوا الهموم والغم والسموم والحيرة والآلام العاتية .
"كنت أقول 
   قد غفرتِ لي ألف مرة
   مقابل كل مرة
   وها أنا اليوم أعجز
   لأغفر لك بأكثر منها
   وكما قال الكريم: سبعة وسبعين مرة
   فإن أراد أن يغضب، سوف لن يغضب
   وإن أراد أن يغضب فليغضب
   ولكنه سوف لن يغضب
   ذات التقمط بالشيطنة".
رغم كل ما جرى من أولادها ينادي قلبها كل من فيه هم وغم وسم ، فالعلة ليست فيها بل في أولادها، في نفوسهم وأفكارهم وروحهم، يلتقطون الأموال ونفيس المتاع ويقدمونها سهلة للضياع ويتركون عمدا المساكين والفقراء والجياع، تتحمل وتصبر وتضحي لأنهم من جسدها ودمها وروحها ومحرابها، فهي لا تمتلك النفائس التي بهروا بها ولا الصروح التي آثروا عليها، لا يتحملون الشدة والحرمان والجراحات التي يذكرونها، يطلبون كل جميل من جمال وجودها ثم يتفرجون على عبراتها ونكباتها، أين الأخلاق التي وجدوا عليها؟ أين الرفعة في مدى صبرها؟
من السذاجة أن نقول حول "الأم" أولاد طغى الوهن فيهم وغالبا يظهروا بمظهر الكمال ويرفعون الأكاليل والرونق والجمال وهم منغمسون في التائهات ويزمجرون إذا عانوا من المعاناة وسمعوا صوت الأشجان والأنات حتى لو أحدثوا في نفوسهم وسالت العبرات، فهي الوحيدة التي تحمي الوجود .
"بل سينادي قلبك
   الذي يئن من الغم
   ومن الكأس المسموم
   الذي سقوك منه أبناؤك
   فهم من جسدك ودمك
   وهم يغترفون لحبك
   رغم إنهم يعرفون أن قلبي هو الآخر
   سيتألم عشرة أضعاف
   دعيني لأكون نسرا يفترس الحية
   ليحمي الوجود".
مثلما هناك أولاد يميلون للدنيا، للحياة ويذوبون في الشهوات وينغمسون في الملذات ولا يرون سوى الذات، فلا تخلو من أولاد يحملون شعلة صدق الرؤية وشموع الأنوار السامية والنظرة الراقية والقدوة الغالية والأخلاق العالية "افعل يا ولدي ما تراه مناسبا" حلق عاليا تنزه في الفعل والعمل والجد والإخلاص المطلق لمبدأ السمو والارتقاء، "الأم" وطن ومن يحلق على مرتفعات وطنه عاليا يرى عمق التاريخ والحضارة الإنسانية والفضائل الأدبية المجزية "حلق كالنسر" ثم كن حكيما، قائدا، واعيا، شاعرا على الأرض والتقط زواحف الفساد الكبيرة والقلوب المستأجرة من ثمن حصاد الأرض، نظف الأفعال الواهنة والنفوس المباعة في سوق النخاسة، نظف الغرائز بمحض إرادتها فارغة واحم أركان "الأم" الحضارية ليكون الوجود لرقي المكان وسمو الإنسان.
"افعل يا ولدي 
   افعل ما تراه مناسبا
   وحلق كالنسر
   وحط على مرتفعات وطنك العالية
   والغابرة في التاريخ
   ومن ثم انحدر إلى حيض الأرض
   لتلتقط تلك الزواحف
   الكبيرة والمستأجرة من الحصاد
   الذي بذره شرير الأمة
   لتحمي الوجود".
هذه اللوحة الفنية الحوارية والدراما الحضارية التي قدمها الشاعر إبراهيم يلدا تخص كل أمة على الأرض وليس فقط الأمة الآشورية، فهو يعكس مدى الإنسانية ضعيفة وجود الوطن من خلال الرمز "الأم" فالأم الحضارية أقوى وجودا من الأم الذاتية بتناغم "الأرض والإنسان" بشكل راق وهذا ليس غريبا على الشاعر إبراهيم يلدا الذي ولد في الحبانية حيث ملتقى الحضارات والجاليات والثقافات الآشورية التي كانت تعيش جنبا إلى جنب الجيش الانكليزي والعربي فضلا عن كونه خريج معهد اللغات العالي في جامعة بغداد وخريج جامعة ليفربول، بريطانيا ويعد من الأوائل الذين أدركوا معنى الحداثة في الشعر بأسلوب يختص به في عوالم التوازي والتساوي بين الأوزان والموسيقى والوحدة البنائية للقصيدة التي تحدد مضمون ومعاني ورؤى وهوية القصيدة ووجودها التي تشكل لغتها التعبيرية حالة من الخلق والحركة والانبعاث وتتوحد في رؤيته الأدبية الفكرية الإنسانية التي تغدو منارا للحب والحياة .