الأنثوية ليست إعادة خلق للأنثى على حساب الذكر

المفكر السوري جاد الكريم الجباعي يرى أن الحركة النسوية ساهمت في إعادة إنتاج المركزيّة الذّكوريّة.
كنا مشاركين سلبيين، أو مشاركين بالسلب و"المعارضة" الإيديولوجية في ما وصلت إليه بلادنا، وما يعانيه شعبنا من قتل وتشريد وتدمير منهجي لمقومات الحياة الإنسانية
كل قوي يحوِّل قوته إلى حق، ويفرضه على الأقل، فالأقل قوةً في صيغة عرف، أو شريعة، أو قانون

قضية المرأة، في خطوطها العامة، هي قضية حريتها واستقلالها، وتمكُّنها، لا تمكينها، من تحقيق ذاتها والتعبير عنها، والسيطرة على مقدراتها ومصيرها، في حياتها الخاصة والعامّة أو النوعية. هذه القضية ذاتها هي قضية الرجل في بلادنا من وجهين: أولهما أن حرية المرأة واستقلالها شرط حريته واستقلاله، والثاني أن الأنوثة الأصيلة أساس الرجولة الأصيلة. 
تدور نقاشات كتاب "فخ المساواة تأنيث الرجل.. تذكير المرأة" للمفكر السوري د.جاد الكريم الجباعي حول إشكالية العلاقة بين المساواة والاختلاف، وهما وفقا للباحث "مفهومان متعارضان ينفي كلٌّ منهما الآخر، الاختلاف ينفي المساواة مهما كان طفيفاً، ومن ثَمَّ، إن المساواة تنفي الاختلاف مفهومياً وواقعياً، هذا أولاً. ثانياً: الاختلاف حقيقة وجودية تُدرك بالحواس، وهو حقيقة وجود الأشياء والأحياء في الطبيعة الأولية. أمّا المساواة، فليست كذلك "ثمّة تشابه بين شيئين أو عدّة أشياء، في أحد الوجوه، أو في بعضها، ولكن المتشابهيْن ليسا متساويين، والأشياء المتشابهة في أحد الوجوه، أو في بعضها، ليست متساوية، وكذلك الأشخاص". إذاً، ليس هناك مساواة في الطبيعة، أو في الكون الطبيعي. ثالثاً: الاختلاف هو المعطى الأولي، الذي يدلُّ دلالةً مباشرةً على استقلال الكائن وكليَّته.
أوضح الجباعي في كتابه الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود أن المساواة من اختراع العقل الإنساني في سيرورة نموّه وانبساطه في العالم وفي التاريخ. فهي؛ أي المساواة، نتيجة تجريد عقلي يحيل على تساوي كمّيتين أو ماهيتين جوهريتين. وهكذا، ينتقل التعارض إلى مستوى آخر هو التعارض بين المشخَّص العيْني الواقعي والمجرد العقلي المثالي، بين الكائن الماثل أمام الحواس وبين المفهوم؛ إذاً، بين الواقع والفكر. تُرى أيٌّ من هذين الحدّين هو مصدر الآخر ومرجعه؟ سنقرّر، هنا، أن القدرة على التجريد هي الفارق النوعي بين الإنسان والحيوان، ودليلنا على ذلك اختراع اللغة، التي كل كلمة من كلماتها مجرّدة تجريداً كلياً، لكن فكرة المساواة، فكرة السبب أو النتيجة أو العدالة والإنصاف...، تجريد أعلى، أو تجريد متعالٍ، وهذا ما يعيّن الفرق بين الكلمة والمفهوم. ولعلّ اختراع اللغة، على اختلاف أشكالها، دليل على انتقال الكائن البشري من كائن طبيعي إلى كائن اجتماعي، وهذا الانتقال هو الثورة الأولى الأكثر جذرية في تاريخ النوع البشري، وهي في مغزاها الأعمق، استقلال الإنسان عن الطبيعة استقلالاً نسبياً.

تعاضد المضطهدات اللاتي يرفضن اضطهادهنّ واضطهاد غيرهنّ، ويرفضن الاضطهاد، والمضطهدين الذين يرفضون اضطهادهم واضطهاد غيرهم، من المبدأ والمنطلق، وتوحيد جهود النساء والرجال في الكفاح من أجل الحرية والاستقلال والكرامة الإنسانية

ورأى أنه حين تحوّل النظام السياسي، في كلٍّ من سوريا والعراق ومصر وغيرها من الدول التقدميّة، إلى نظام تسلطي، واستبدل بمفهوم الشعب مفهوم الجماهير، وحوّل الأفراد إلى "كائنات توتاليتارية"، بحسب تعبير حنة أرندت، يُبدي كلٌّ منها وجهين متناقضين لأنموذجين متناقضين: أنموذج المتسلّط المستبد، وأنموذج التابع الذليل، يقهر أحدهما الآخر، ويرضّ إنسانيته، ويهيّئ شروط انبثاقه وإعادة إنتاجه، ويعيِّن موقعه في البنية التراتبية "الهيرارشية".. حينذاك تكشَّفت بعض ملامح أزمتنا الفكرية والأخلاقية، وتبيّن أنّنا كنّا في وادٍ والمجتمع في وادٍ آخر، ولم نلتفت إلى تدهور الشرط الإنساني أو نقص الحياة الإنسانية وتآكلها، وإلى تدهور الشرط النسوي خاصة. وتبيّن أننا كنا مشاركين سلبيين، أو مشاركين بالسلب و"المعارضة" الإيديولوجية في ما وصلت إليه بلادنا، وما يعانيه شعبنا من قتل وتشريد وتدمير منهجي لمقومات الحياة الإنسانية؛ فكان لا بدّ من نقد جميع أفكارنا وتصوّراتنا عن أنفسنا ومجتمعنا وعن العالم.
ولاحظ الجباعي أن الحركة النسوية، التي تمحورت على مطلب المساواة، ساهمت، من حيث لا تدري ولا تريد، في إعادة إنتاج المركزيّة الذّكوريّة؛ بانصرافها عن إرادة تحقيق الذّات وتأسيس المختلف، في الفضاء العام، إلى نوع من نسيان الذات والجنوح إلى التّماثل والمطابقة، أو التماهي بالرجل، والذوبان في سديم الجماهير. فالنسوية أو الأنثوية ليست إيديولوجيا، أو مجرّد مطالب محددة لضمان حقوق المرأة ومساواتها بالرجل...؛ إنّها، فوق ذلك وقبله، "فضاء معرفي علماني؛ تحاول قبل كلّ شيء أن تموضع مفهوم الجندر الإنساني، بإعادة تعريف الهوية الوجودية للذكر والأنثى على السواء، وتُعيد، من ثم، بناء ما استقرّ في الأذهان عن هوية الجندر الذكوري والأنثوي" بحسب رجاء بن سلامة. الأنثوية ليست إعادة خلق للأنثى على حساب الذكر؛ بل مسعى إلى تهديم الهرم البطركي والتراتب الهيرارشي المستندين على اللغة والدين والتراث والتاريخ... إلخ. الهرم البطركي نظام تاريخي وكونيّ راسخ، تختلف حدّته من ثقافة إلى أخرى. وقد أوضح بورديو أنّ: "قوة النظام الذكوري تكمن في كونه غنياً عن التبرير".
وأكد أن حاجة الفرد الإنساني إلى الأخريات والآخرين مثل حاجته أو حاجتها إلى الهواء والماء والغذاء؛ فكلّما ازداد عدد الذين نتجنّبهم أو نعاديهم ونكرههم، ازداد كرهنا لأنفسنا وكرهنا للحياة، وتنمو في دواخلنا عوامل التعصُّب والتطرّف والعنف، فلا نهتم بحقوق الآخرين وحريّتهم، ولا نبالي بحياتهم. "إذا لم نحب العالم لا نستطيع أن نكون أحراراً فيه". إن صراع الهويات الدائر اليوم، والقتل على الهوية، والتمثيل بجثث القتلى والرقص المسعور على أشلائها، وجرائم الاغتصاب المشينة، وتدمير مقوّمات الحياة وإمكانات التمدُّن، فضلاً عن "جرائم الشرف".. تُشير كلّها إلى عمق ما نسمّيه "التأخّر الإنساني" وتجذّره في البنى الذهنية والنفسية، والعقائد المذهبية، التي تُرتكَب جميع هذه القباحات تحت ألويتها، وباسم آلهتها.
وقال الجباعي إن ثمة قابلية بيولوجية لتأنيث الذكور تناظرها قابلية لتذكير الإناث، مهما تكن هذه القابلية نادرة التحقّق. أغلبيّة الناس لا يهتمّون بالنادر والقليل؛ لتعلّقهم بالوفرة والكثرة، ولا يتوقّفون عند الاستثناء؛ لتعلّقهم بالقواعد الثابتة والمبادئ الراسخة، وإذعانهم لسلطة الرأي العام، وسلطة الأفكار والقيم التي يؤيّدها، ويعدّون الاستثناء حجةً للقاعدة، لا حجةً عليها؛ فالاستثناء لا يؤكّد القاعدة؛ بل لعلّه يفتح إمكانية نقضها. جميع البحوث المبنية على بيانات إحصائية تصوغ متوسطاً مثالياً ينفي جميع الاستثناءات الموجودة على طرفيه هذا المتوسط صالح تماماً (لمعرفة عامة) لكنّه لا يحدث في الواقع بالضرورة، ولا يعبر عنه؛ لأن الواقع أفرادي، علاوةً على كونه موَّاراً ومتغيراً على الدوام؛ فما يُميّز الوقائع الحقيقية هو فرادتها، ويمكن القول: إن الصور الحقيقية ليست سوى الاستثناءات من القاعدة، أو من الأنموذج الصوري المفترض. هنا، يجب النظر إلى النمذجة، التي لا بُدّ منها، على أنّها ابتعاد عن الواقع من أجل فهمه والرجوع إليه مرةً تلو أخرى. فمن أسوأ العادات الذهنية اعتبار النموذج النسقي بديلاً للواقع الأفرادي، وإهمال الحالات الفردية على أنها استثناء. 

النسوية
جاد الكريم الجباعي

ولفت إلى إن عملية الصورنة والنمذجة ليست عملية تجريد وتعميم انطلاقاً من تفريد منسيّ فحسب؛ بل عملية اختزال وتقليص، تخفي الفروق والتباينات في الحالات الواقعية، وهي حالات فردية أساساً، حتى عندما نتحدث عن مجموعات وجماعات تُعرِّف نفسها بصفة أو أكثر، أو تختصُّ بوظيفة خاصّة أو عامّة، كالجماعات الإثنية والمذهبية، أو الجماعات المهنية وفرق العمل والنشاط وجماعات الضغط ومنظمات المجتمع المدني.
وأشار الجباعي أن خبر تحويل امرأة إلى رجل، أو العكس، كان أقرب إلى حدثٍ عجائبي، أو إشارة من إشارات آخر الوقت. فقلّما تساءل الناس عن السرّ القابع خلف هذا الحدث؛ أي خلف إمكانية التحول الجنسي، وتنوّع الميول الجنسية، لإعادة التفكير في علاقة الذكورة بالأنوثة في الكائن الحيّ عامةً، والكائن الإنساني خاصّةً، واكتشاف منطق الحياة وأسرارها. فإن تمييز المتحوّلات والمتحوّلين، والمثليات والمثليين، لا ينفصل عن التمييز الجنسي. ومن هنا، لا نستطيع أن ننظر إلى التمييز العنصري والتمييز المذهبي والتمييز القومي والتمييز الجنسي والتمييز الثقافي إلا بصفتها من منتجات المركزية بمختلف أشكالها.
ورأى أنه لا يزال الناس عندنا ينظرون إلى الميول الجنسية المثلية على أنها شذوذ مَعيب ومُعيب وآثم، لا يوضع إلا تحت حكم أخلاقي، ويُعاقَب عليه اجتماعياً وقانونياً، ويستنكرون أيّ حديث عن حقوق المثليات والمثليين، وذوات أو ذوي الميول المزدوجة، مع أن هذه الظواهر مطَّردة في حياة البشر منذ عصور غابرة، وهناك دول تسمح بالزواج المثلي، كالولايات المتحدة والبرازيل، وإنكلترا مؤخّراً. ما يطرح مشكلات جديّة تتعلق بقبول الذات وقبول الأخرى المختلفة والآخر المختلف. قد تكون نسبة أحاديات وأحاديي الجنس هي الأعلى في أي مجتمع، على الأرجح، والاستثناء ينقض القاعدة، ولكن هل تتوقّف حقوق الإنسان؛ أي حقوق الأفراد والجماعات، والحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، على كثرة العدد أو قلته؟ لو كان الأمر كذلك لتوجّب أن تتمتّع النساء بحقوق أكثر من الرجال؛ لأنهنّ الأكثر عدداً في مجتمعنا، اليوم، ومجتمعات كثيرة أخرى، والأكثر تأثيراً في إعادة إنتاج السلطة الذكورية ذاتها. هذا يدعو إلى فتح ملف الحقوق، وإظهار المبادئ التي تنبني هذه الحقوق عليها، ولا سيّما مبدأ الملكية ومبدأ القوة والغلبة، وتفكيكها.
وتابع الجباعي أن كل قوي يحوِّل قوته إلى حق، ويفرضه على الأقل، فالأقل قوةً في صيغة عرف، أو شريعة، أو قانون. ومن الضروري الكشف عن جذور التضامن بين هذه المنظومات المختلفة؛ أي عن ما سمّاه مونتسكيو "روح القوانين"، لإظهار أسس القوة الناعمة والعبودية الطوعية، وأثرها في وضع القوانين، ومدى الاتفاق عليها، ومستويات قبولها ومعارضتها. وثمّة قابلية لتأنيث الرجال رمزياً واجتماعياً وسياسياً وأخلاقياً، تناظرها قابلية لتذكير النساء، وهذه ليست نادرة التحقّق. هاتان القابليتان تطرحان أزمة هويّة لدى الرجال والنساء. جذور هذه الأزمة تضرب عميقاً في قسمة الإنسان قسمين: جسد وروح، واعتبار الأول "مادة" للثانية أو الثاني، بكلّ ما لكلمة مادة من إيحاء طيني وشيئي، واعتبار المرأة مجرّد مادة أو مجرّد جسد. يقصد بتأنيث الرجل اعتباره موضوعاً هامداً ومطاوعاً للسلطة، ويُقصد بتذكير المرأة اعتبارها مساويةً لهذا الأنموذج الهامد في التشريعات والقوانين، وطمس هويتها الجنسية، وتشييء أنوثتها على أنها موضوع للرغبة وموضوع للسلطة.
وشدد الجباعي على أن إذعان الرجال وخنوعهم وامتثالهم للاستبداد وتعلّقهم به وقائع لم تستوقف الحركة النسوية في بلادنا لتبني استراتيجيتها على معطيات الواقع وإمكانات تجاوزه، لا على خطاب تحرّري، أو مساواتي، لم تساهم في إنتاجه. فلا يفيد المرأة في شيء أن تكون «مساوية للرجل»؛ بل يتعيّن عليها أن تنتشل نفسها وتنتشله من وهدة التبعية والذلّ. 
وتساءل هل نفكّر في تغيير الحامل الاجتماعي للتقدّم، ونقل رايته من الرجال إلى النساء بعد أن أخفق الفحول في تحقيق أي خطوة ذات شأن في هذا السبيل، كما يمكن أن يتراءى للقارئة والقارئ؟ وقال "لا، بطبيعة الحال. نحن ندعو إلى تعاضد المهمّشات اللاتي يرفضن تهميشهنّ وتهميش غيرهنّ، ويرفضن التهميش، والمهمشين الذين يرفضون تهميشهم وتهميش غيرهم، ويرفضون التهميش، من المبدأ والمنطلق، وتعاضد المضطهدات اللاتي يرفضن اضطهادهنّ واضطهاد غيرهنّ، ويرفضن الاضطهاد، والمضطهدين الذين يرفضون اضطهادهم واضطهاد غيرهم، من المبدأ والمنطلق، وتوحيد جهود النساء والرجال في الكفاح من أجل الحرية والاستقلال والكرامة الإنسانية".