الإحتفاء بالهامش

الأصوات النخبوية أصبحت خافتة بفعل تلاشي منطق الثنائيات خصوصاً بعد قيام الثورة الرقمية.
مفهوم الهامشية يثيرُ حفيظة النخبة وسدنة الثقافة الرسمية وفي ذلك تكمن إشكالية الموضوع
الدراسات الأكاديمية نادراً ما تهتمُ بما أنجزه أدباء الهامش

ارتبط مفهوم الأدب بالعمل النخبوي، وكان وسيلة للإكتساب لدى بعض المشتغلين في هذا المجال إذ دبجَ كثير من الأُدباء الوصف والمديح لأصحاب النفوذ متوسلين من وراء ذلك إكراميات مادية أو مناصب سياسية، بالمقابل ظلَّ من خالف هذا السلوك النفعي منبوذاً ولم يتلفت إليه المؤرخون ولا النقاد حيثُ تصدرَ أدباء البلاط واجهة المشهد الثقافي وذلك ما كرّس انفصال الأدب عن هموم وتطلعات العامة ولا تزالُ ترسبات هذه العقلية الإصطفائية فاعلة في الحياة الثقافية والأكاديمية كما يرى البعضُ بأن من حق الأديب أن يكونَ معتكفاً في برجه العاجي مُنقطعا عن نبض الشارع ومنكباً على عالمه الخاص. 
لكن هذه الأصوات النخبوية أصبحت خافتة بفعل تلاشي منطق الثنائيات خصوصاً بعد قيام الثورة الرقمية حيث توفرت المنابر للمنسيين والمهمشين والمنزويين في القاع، عليه فإن معاناة هؤلاء قد غدت مادة أساسية للأعمال الأدبية، وانفتح المُعجم الروائي  والشعري على الكلمات والمفردات المتداولة في البيئات المُهمشة بخشونتها المعبرة عن حياة عارية من المُبهرجات الأمر الذي فتح قوس النقاش حول إرهاصات الواقعية القذرة في النصوص الأدبية، وما يدعمُ هذا التيار هو الإهتمام بالهامش على الصعيد النقدي والجهود الرامية للإبانة عن جذوره وتمثلاته في الخطاب الأدبي المُعاصر، وما يتميز به النصوص السابحة في فضاءات مهمشة من نزوع إلى السخرية ومُشاكسة الأعراف الأدبية السائدة.  
ومن المعلوم بأنَّ الدراسات الأكاديمية نادراً ما تهتمُ بما أنجزه أدباء الهامش ومردُ ذلك هو المسلك الوظيفي الذي يطبع النشاط الأكاديمي حيث غاب الغرض المعرفي ولم يعد الإشتغال على البنيات المعرفية العميقة هدفاً لما يقدمُ في أروقة المؤسسات الجامعية بقدر أنَّ ما يشدُ الإهتمام هو الجانب الوظيفي لذا فإن ما يتراكم  من المواد البحثية على الرفوف لا يضيفُ شيئا إلى الوسط الثقافي ولا يكون عاملاً للحراك الفكري، لكن ما أنجزته الأكاديمية التونسية إبتسام الوسلاتي في دراستها الموسومة "الهامشية في الأدب التونسي" يعدُ إستثناءً على عدة مستويات إذ انبرت الباحثة لرصد تجربة جماعة تحت السور التونسية وإستعادة أعمال الأدباء الذين كان دورهم ريادياً في النهوض بالثقافة التونسية بجميع أشكالها وهذا ما يكسبُ الكتاب أهميةً سواء بالنسبة للمُتخصص أو المتابع للحركات الثقافية.
الإشكالية
قد يثيرُ مفهوم الهامشية حفيظة النخبة وسدنة الثقافة الرسمية وفي ذلك تكمن إشكالية الموضوع، ومن الواضح بأن كثيراً من المثقفين لا يستوعبون المعطيات الجديدة التي غيرت المعادلة القائمة بين النخبة والعامة متوهمين وجود الأسيجية التي تضيق الإهتمامات المعرفية في دائرة النخبة، لكن ما تتناوله الوسلاتي في مؤلفها أضاء أبعاداً مضمرة في مفهوم الهامش وما يحمله المُصطلح من دلالات مُناهضة للتقليد والمألوف، ومن ثُمَّ تتبعُ الوسلاتي مسيرة جماعة تحت السور ومكونات مشروعهم الثقافي إذ يفهمُ من محتويات الكتاب بأنَّ الهامشية هي موقفُ أو إحتجاج بوجه الإكراهات الإجتماعية والسياسية والثقافية، ولا تنزلُ الهامشية ضمن التصنيفات الطبقية بل تتمثل لمفهوم الفئة أكثر فإن تشابه ظروف الحياة لدى عدد من الأشخاص هو ما يؤسسُ لجماعة أو فئة معينة، ومما تدرسه الكاتبة ُ في الفصل الأول هو الصراع والعلاقة المتوترة بين المهمش والمركز إذ يرفض الأول المرجعية المعيارية التي ينطلقُ منها التيار السائد لإقصاء المخالفين. من هنا فإنَّ المهمشَ يكتسبُ دوراً مهماً كونه فاعلاً يرفضُ النماذج المهيمنة.

أدباء الهامش
هذا المؤلف يُصنف ضمن الدراسة الأنثروبولوجية والتاريخية والتوثيقية

إضافة إلى ما سبق ذكره فإنَّ الكاتبة تهمها الإشارة إلى ما يشوب مفهوم الهامش من الإلتباس عندما تم الخلط بينه وبين المهمش، وتعتقدُ إبتسام الوسلاتي بإنَّ إشتراك المُصطلحين في الإطار الإجتماعي ذاته لا ينفي وجود الإختلاف في طبيعة الفعل الإجتماعي. طبعاً إن نشوء الفئة الهامشية يمكن فهمه على ضوء ما تمرُ به المجتمعات من مراحل إنتقالية لا تخلو من الخلل في البنية الإقتصادية والإجتماعية حيثُ يخفق المركزُ في احتواء الجميع، فالبتالي تتشكلُ حاضنة مناسبة لظهور جماعات جديدة.
الخلفية التاريخية
لا تدور فصول هذا الكتاب حول جماعة تحت السور وأعلامها فحسب بل تغطي الكاتبة المناخ الثقافي والإجتماعي لتونس في الحقبة التي سبقت ظهور هذه الجماعة إذ إنتشرت ما سميت بدكاكين المعرفة والنوادي والمقاهي الثقافية، كل ذلك كان بمثابة منطلق لحراكات ثقافية إذ تحولت قهوة "تحت السور" إلى مركز إجتماع لشرائح المجتمع.
في ظل هذه الأجواء تكونت جماعة "تحت السور" إذ إتفق أعضاؤها في الرؤية الفنية التي وجهت سلوكهم وإبداعهم وجهة مخالفة لما كان سائداً وأعلنوا التمرد على القيم المتواضع عليها إجتماعياً من خلال تصرفاتهم المجانية وإقبالهم على المللذات. على الرغم من عناصر مشتركة بين أفراد هذه الجماعة لكن ذلك لا يعني إنمحاء الخصوصية بين الأدباء وهذا ما أكدت عليه الوسلاتي لافتةً إلى السمات المميزة في التجارب الفردية إضافة إلى ما يجمع بين هؤلاء من المباديء المشتركة. 
لم تنحصر نشاطات هذه الجماعة في مجال معين بل أراد أدباؤها التجديد على مختلف المستويات الفنية والأدبية والفكرية، كما بادروا إلى نقل النصوص الأجنبية إلى العربية مع الإهتمام بتبيئة الأعمال والنتاجات الأدبية المترجمة بحيث تتتخذُ طعماً محلياً. 
عطفاً على ما سبق فإنَّ إيجاد لغة جديدة مطبوعة بالحس الشعبي دون أن تبتعدَ عن الفصحى كان عنصراً آخر من مشروع جماعة "تحت السور" وذلك يكشفُ عن إدراكهم العميق لهموم المرحلة زد على ذلك محاولة هؤلاء الأدباء لبلورة مفهوم التداخل الأجناسي ويضمرُ هذا المسعى رغبة لنزع طابع نخبوي من بعض أشكال أدبية.
يذكر أن ما قدمه على الدوعاجي ومحمد العريبي وبيرم التونسي كان إضافة نوعية في الإبداع والفني والأدبي لاسيما في مجال كتابة القصة والنصوص المسرحية، كما لا يصح التغافل عن دورهم البارز في المنحى الصحافي، فأصدرت جماعة "تحت السور" جريدة السرور، وهي المنبر الصحافي الأول الذي نشرت فيه القصة والزجل والملزومة والفكاهة، غير أنَّ ما يلفت الإنتباه أكثر هو مساعي جماعة تحت السور لتأسيس مرحلة جديدة في العمل المسرحي إذ حققت المسرحيات التي كتبها عبدالرزاق كرباكة وعلي الدوعاجي نجاحاً ملحوظاً على الصعيد الجماهيري، كما أنَّ ما أنجزهُ محمد العريبي في فن الشعر تكملةً لمشروع الجماعة الريادية. 
ما يجبُ الإشارة إليه أنَّ إبتسام الوسلاتي سردتْ في سياق دراستها جانباً من حياة أدباء "تحت السور" كما حافظت على السلاسة والتشويق في أسلوب الكتابة، ويُصنف هذا المؤلف ضمن الدراسة الأنثروبولوجية والتاريخية والتوثيقية.