الإدارة المصرية والأزمة الليبية

أولوية الأزمة الليبية لم تحجب عن القيادة المصرية حقيقة أن أزمة ضاغطة أخرى تتمثل بالتصعيد في ملف سد النهضة.

كل خطوة تقوم بها مصر في التعامل مع الأزمة الليبية تثبت أن هناك فريقا متكاملا سياسيا وأمنيا وعلى مستوى عال يتولى متابعتها عن كثب، ويملك معلومات دقيقة عن كل كبيرة وصغيرة حول جميع الأطراف المنخرطة فيها.

وهو ما مكن الرئيس عبدالفتاح السيسي أن يتخذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب، ويعزز الثقة في إدارته للملفات الخارجية كما هي في الملفات الداخلية، ويجد كتلة شعبية متماسكة تقف خلفه في التحركات السياسية أو العسكرية التي ينوي اتخاذها.

تتعامل الأجهزة المصرية مع الأزمة بطريقة عقلانية، ساعدتها على تخطي الكثير من الصعاب والعقبات على مدار السنوات الماضية، وقبل أن تحصل المؤسسة العسكرية على تفويض البرلمان بالتدخل في الأزمة، الاثنين، نالت تفويضا مسبقا من الأجسام الرئيسية في ليبيا، الجيش الوطني، والبرلمان، وشيوخ القبائل.

قبل كل ذلك تقف معها الشرعية الدولية لأن ما تقوم به تركيا من تدخل سافر وحشد لأعداد كبيرة من المرتزقة والإرهابيين يهدد فعلا الأمن القومي المصري.

ربما تكون مصر الدولة الوحيدة التي تقف إلى جوار ليبيا وهي لا تريد سوى إنهاء حكم العصابات المسلحة والحفاظ على وحدتها وتماسكها ومنع انفراط عقدها، وكان الرئيس السيسي صادقا في تصريحاته المتعلقة بالأزمة في هذا الاتجاه، ولم يتورط ولو على سبيل المناورة في تبني خطاب خادع.

من يراجع التسلسل المنطقي لرؤيته يجدها لم تتغير أو تتبدل في أي من محطات الأزمة المتتابعة، ومن أرادوا فهمها بطريقة خاطئة يتحملون وزر فهمهم القاصر، فعندما تحدث مثلا عن دور القبائل كان الكلام موجها إلى تجنيد شبابها ضمن أطر المؤسسة العسكرية النظامية وليس لتشكيل ميليشيات موازية لمواجهة تلك التي تتبناها وترعاها تركيا، فمصر التي تؤمن بالحفاظ على المؤسسات الرسمية خطواتها واضحة في هذا السياق ولا تحتمل تأويلا أو تشكيكا.

 لم ينتبه البعض في مصر أو غيرها إلى كثير من تفاصيل الأزمة الليبية، وكانوا يتصورون أن هناك تفريطا في التعامل معها، لأنهم لم يتابعوا تطوراتها الدقيقة إلا عندما استيقظوا على الضجيج التركي يقترب من حدودهم الغربية من خلال التدخلات الواسعة وشحن المعدات العسكرية وآلاف المرتزقة إلى ليبيا، الأمر الذي لم تتغافله مصر وقدرت حجم خطورته حاليا ومستقبلا.

لكن كانت محكومة بضوابط إقليمية ودولية وليبية لم تشأ تخرقها في أي وقت، فمنذ اليوم الأول لإندلاع الأزمة وهناك عيون ساهرة تعرف كافة دهاليزها وتراقبها وتضع التقديرات المناسبة لكل موقف حسب مقتضياته السياسية.

وفّر اقتراب المسؤولين المصريين كثيرا رؤية شاملة لصانع القرار، مكنته من التحرك على كل الجبهات بصورة متوازية، الدبلوماسية والعسكرية والمجتمعية، والإقليمية والدولية، ومصر الدولة الوحيدة التي انفتحت حواراتها على كل من أرادوا المساهمة في الحل في أوقات عديدة.

وصدت من حاولوا ترويضها أو عقد صفقات مغرية معها، ولم تحد عن ثوابتها، ما جعل كلمتها مسموعة لدى غالبية القوى الكبرى، ومحورا رئيسيا في مبادرات طرحت ومحادثات عقدت بين الأطراف المعنية بالأزمة.

عندما تصاعدت حدة الأزمة الليبية اتبعت الإدارة المصرية منهجا رشيدا لتدشين الخيار العسكري دون أن تتخلى عن الحل السياسي، لم تلجأ إلى عقد اتفاقيات سرية مع القوى المعادية، أو تلتف على القنوات الشرعية، أو تحاول الجور على حقوق شعب في محنته، كما فعلت تركيا التي وظفت الضعف الذي تعاني منه حكومة الوفاق في طرابلس لتمرير اتفاقيات تضر بمصالح ليبيا، وتخدم تيارا سياسيا مؤدلجا يريد الهيمنة على المقدرات ونفي الآخرين تمهيدا لمزيد من التمدد في الشمال الأفريقي.

من السهولة أن تحصل مصر على كل الشرعيات اللازمة لتدخلها عسكريا دفعة واحدة، لكنها حرصت على أن تكون خطواتها واضحة ومتدرجة، وتحذيراتها حاسمة وقاطعة، عسى أن يفهم الخصوم أن تمهلها ليس ترددا، وحذرها ليس ضعفا، وحكمتها ليست تهربا، غير أنهم فهموا الرسائل على وجهتها الخاطئة.

قدم الرئيس السيسي إعلان القاهرة في 6 يونيو الماضي، وحوى نقاطا مهمة للحل السياسي، برعاية الأمم المتحدة واستنادا إلى مخرجات مؤتمر برلين، ولم تتفاعل معه حكومة الوفاق التي انساقت وراء الأحلام التركية والإخوانية، وهما آخر من يريدون تسوية الأزمة، لأن غليانها يحقق لهما مكاسب عدة، بالتالي من الضروري الاستمرار في دق طبول الحرب.

جاءت الخطوة الأكبر عندما اجتمع الرئيس السيسي بالقيادات العسكرية الرفيعة بحضور كبار شيوخ وقبائل ليبيا في 20 يونيو الماضي، ورسم على الأرض الخط الأحمر، سرت الجفرة، الذي يجب عدم تجاوزه من قبل تركيا وحكومة الوفاق، لأنهم في هذه الحالة لن يستطيعوا التقدم شرقا أو العودة غربا، في إشارة بالغة الأهمية والصرامة العسكرية، غير أن المستهدفين من الرسالة تعاملوا معها إعلاميا على أنها مناورة لا ترقى للتهديد الحقيقي، مع ذلك لم يحاولوا خرق الخط الأحمر.

مثّل الكشف عن المناورة حسم 2020، ارتفاعا في مستوى الجاهزية، ودل على اقتراب ساعة التدخل العسكري، وأن هذا العام هو عام الحسم المصري للأزمة الليبية، طالما تقاعس وتواطأ الآخرون، ومكنوا تركيا من أن تواصل زحفها أملا في الاستحواذ على الموارد الليبية، وترسل الآلاف من المرتزقة والإرهابيين أمام العالم دون عقاب أو مساءلة حقيقية.

جرت مياه كثيرة قبل وبعد المناورة حسم، وكلها تصب في موقف مصري واحد، وهو أن ما يجري في ليبيا لن يتم السكوت عليه، وأخفقت محاولات البعض في شغل أجهزة الدولة بالصعود والهبوط في ملف سد النهضة عن ليبيا، فالأولى قضية فنية مشوبة بنواحي سياسية يحتاج التعامل معها المزيد من الروية، ولن تعدم القاهرة إيجاد الخيارات الملائمة لدفع إثيوبيا على عدم تجاهل الحسابات المائية المصرية.

أما ليبيا فهي أزمة ضاغطة مباشرة على مفاصل الأمن القومي، وتركها مفتوحة سوف يؤدي إلى تدفق الكثير من المرتزقة، ومن المهم أن تمسك مصر بزمام المبادرة في هذه اللحظة وتوجه الدفة لتجبر خصومها على الجلوس حول الطاولة ويدها هي العليا، أو يواجهون نيرانها ويلقون مصيرهم، وفي الحالتين تريد وقف الفوضى وتداعياتها الإقليمية.