الإسكندرية كما رأتني

عشت في الإسكندرية ساعات جميلة مسلية أسعدتني كثيرا، وأنستني هموم الشيخوخة والتعب.
ما لفت نظري هو كثافة جلوس الناس على المقاهي أمام خط البحر وعلى الشاطئ، وقرب الغروب
حين أشاهد وأتابع مد البحر فإنني أزداد فهما في علم الصبر وحكمته
رحلة تاريخية لم أتخيل أفضل ولا أجمل منها في حياتي

بقلم: نازك ضمرة

كان يوما حافلا وعميق الأثر في نفسي - الأحد 16 سبتمبر/أيلول – حيث عشت ساعات جميلة مسلية أسعدتني كثيرا، وأنستني هموم الشيخوخة والتعب. 
من عادتي أن لا أطيل الجلوس على المقهى أو المطعم أو حتى في القراءة أو الكتابة أو مع الصحب، فجسمي يطالبني بالراحة والاسترخاء كل ساعتين أو كل ثلاث ساعات على الأكثر، لكن في هذا اليوم نسيت نفسي، وشعرت بنشاط خاص وأنا في مدينة الإسكندرية التي أخبرني صديقي أحمد فضل شبلول أن عدد سكانها حوالي 6 ملايين إنسان، أصدّق هذا التقدير، لكثرة ما شاهدت من أدلة، وقبل توضيح ما علق بذهني وما عشت فيه، أحب ان أنوه عن عادة جلوس الناس على المقاهي والكازينوهات وشاطئ بحر الإسكندرية. 
مدينة الإسكندرية تتمتع بشاطئ طويل جميل متعرج نوعا ما، بطول ينوف عن العشرين كيلومترا، أي أن وجهة مدينة الإسكندرية على البحر هي بهذه المسافة، الكبيرة والنادرة عالميا ربما، ولا ننسى القرى والعزب التي تمتد على البحر بعد زحام الإسكندرية العمراني والسكاني والحداثي في المباني والعمارات الشاهقة نوعا ما، والتي تمتد متصلة ومتزاحمة على شاطئ البحر المتوسط. وما لفت نظري هو كثافة جلوس الناس على المقاهي أمام خط البحر وعلى الشاطئ، وقرب الغروب وما بعده ستجد في الأيام العادية نصف مليون من الناس يجلسون على المقاهي والمطاعم والشواطئ، هذا حسب تقديري وحسب ما شاهدت، لكن قد يخطر ببالك أن تسألني وماذا عن كثافة الجالسين على المقاهي والماشين على الشاطئ والمطاعم، كم نسبتهم، لا أبالغ إن قلت لك إنه قد يصل عدد الجالسين على شواطئ الإسكندرية مليون إنسان أو مليون إلا ربع تواضعا، أيام الجمعة والسبت والأحد. 
تغدينا في مطعم "عروس البحر" وأكلنا أنواعا مختلفة طازجة من الأسماك المشوية والمقلية، ثم انتقلنا إلى الشاطئ، نبحث عن مكان نجلس معه ساعة أو ساعتين، وإذا بجلستنا تطول لأكثر من أربع ساعات، وتغرب الشمس ونحن لا نحس كيف يمضي الوقت. 

لا نحس كيف مضي الوقت
نازك ضمرة يتوسط حسن الأشقر وأحمد شبلول

أنتبه وأنا في الكازينو لكل ما حولي، بل واندمج في المشاهد، ولا أنسى رفيقيّ أحد شبلول وحسن الأشقر، لكن عيني وأحاسيسي كانت ممتدة بنظرات كاميراتي لتسجل وتقرأ كل ما تصل عيناي له، فأمامي البحر الذي بدأ يمتد، أو بدأ رحلة المد، وأظهرت لأصدقائي، أنني حين أشاهد وأتابع مد البحر فإنني أزداد فهما في علم الصبر وحكمته، والإصرار على التقدم بهدوء ولو شبرا شبرا، فالبحر أستاذ يتصرف بكل صبر، والموجة تتلو الموجة فتدفع الماء للتقدم على اليابسة، وأسعد حين أرى الأطفال يهربون من وصول الماء لأقدامهم. 
أتذكر طفولتي وأنا اعبث بالرمل وأشكل البحيرات الصغيرة والسدود والتلال، على شواطئ يافا / فلسطين (عروس البحر) أيامها، عام 1946 حين كنت في العاشرة من عمري، أيام مضت وانقضت وتباعدت، ولن تعود، زرت مدينة يافا مرتين أو ثلاثا في الأعوام الثمانية الماضية، لكنني صرت أضعف عن السفر والزيارات لأي مكان في العالم قليلا قليلا. 
يجلس بجانبنا شاب وفتاة فيهما أناقة وجمال بسيط نوعا ما، لم تعجبني الفتاة بتصرفاتها، فقلت لرفاقي إذا كان هذا الشاب ينسج لتكون هذه الفتاة رفيقة عمره، فسيعيش شقيا مرهقا، فالفتاة متعجرفة حسبما شاهدت، يعاملها الشاب بلطف ويحاول استرضاءها بكل وسيلة، يبدو عليه الحياء والذوق والثقافة، لكنه ينقصه الخبرة، فيأتيها بطلب بعد طلب من المشروبات والآيس كريم العجيب والمتنوعات غالية القيمة، فتظهر له وكأنها تريد أن تتذوق الشي فقط، ولا تأكل إلا ملعقة صغيرة أو اثنتين ثم تترك الحلوى تذوب، وكلما حاول تدليلها أو المزاح معها أعبست وكشرت وأدارت وجهها (بوزها) غير عابئة به، فما تفسير خروج مثل تلك الفتاة مع شاب في مكان سياحي مكلف كثيرا بالنسبة لابن الإسكندرية العادي؟ أعتذر عن مداخلتي هذه التي لا تفيد أحدا والمفروض أنها لا تعنيني. 
لكن الشباب العاملين في الكازينو والفتيات يعاملونك في مرح ومزاح وتفاهم وتعاون، حتى وبتفاؤل فتنسى نفسك وترافق البحر، البحر بأمواجه المنتظمة يومها، والمتتابعة بلا كلل ولا ملل تذكرك بأغنية بيرم التونسي والتي غنتها ام كلثوم (الموجة تجري ورا الموجه عاوزها تطولها، تضمها وتشكي لحالها من بعد ما طال السفر) ومع إبريق الشاي الخاص الذي طلبناه لنستمتع بشربه قليلا قليلا، ونحن نستنشق نسائم البحر الرطبة قليلا يومها، والجو يزداد لطفا وجمالا وتخديرا، من الساعة الثالثة حتى بعد السابعة مرت ساعات أربع وكأنني في حلم على شاطئ الإسكندرية، رحلة تاريخية لم أتخيل أفضل ولا أجمل منها في حياتي. 
أدعو الله أن تظل الإسكندرية عامرة بأهلها وشواطئها وسحر جمالياتها، لتظل عروس البحر المتوسط، وأتمنى من إدارة مجلس المدينة تنفيذ طلبي وهو ترقيم مباني المدينة وكتابة أسماء الشوارع بوضوح وكل مائتي متر يضعون لوحة معدنية جيدة صغيرة على جدار أي عمارة أو سور في الشارع، والهدف معروف ولا داعي لتبريره، سواء لابن البلد أو للغريب، وللسائح الذي سيعشق الإسكندرية ويعود لها، بل ويجلب المزيد من الرفاق والسياح معه، لتظل الإسكندرية العريقة في التاريخ ملتصقة بذاكرتنا وذكرياتنا التي لا تمحي.
نازك ضمرة (أبوخالد) – كاتب أردني