"الإسكندرية 2050" والبناء السردي

رواية صبحي فحماوي جاءت على هيئة تقرير مخابراتي، يتضمن تصريحات الشخصية الأساسية مشهور بن شاهر الشهري، لحظة احتضاره بـِعَكًا يوم 25/ 9 /2051.
الرواية تدخل في تفاعل عارم مع لغات التواصل الاجتماعي الأخرى كالدين والتاريخ والسياسة والخيال العلمي والأدب والفن عموما
الوصف في الرواية ليس ترفا فنيا، وإنما من خلاله يبني السارد صورا سردية مشحونة بالدلالة القومية والإنسانية

جاءت رواية "الإسكندرية 2050" على هيئة تقرير مخابراتي، يتضمن تصريحات الشخصية الأساسية "مشهور بن شاهر الشهري"، لحظة احتضاره بـِعَكًا يوم 25/ 9 /2051، بعدما عاش ما ينيف عن مئة سنة. مشهور شخصية ساردة تقدم سيرتها المليئة بالتجارب، المثقلة بالهموم، والكاشفة عن معرفة عميقة بالحياة بكل تشعباتها وطموحاتها ونجاحاتها وانكساراتها. 
يهيمن في الرواية السرد التناوبي، إذ تتـنقل بين الماضي والمستقبل. فمن خلال الذاكرة يستعيد مشهور الحياة التي عاشها في المخيم والإسكندرية ودبي. وباستشرافه المستقبل يقدم نبوءاته ويعبر عن أحلامه. يسافر السارد عبر الزمان والمكان مستخدما تقنيتي الاسترجاع والاستشراف. 
وتبدأ حياة مشهور مع مجيئ الاحتلال الصهيوني لفلسطين. وهو يتذكر فصول مطاردة الفلسطينيين وتعذيبهم التي استهدفت كسر نفوسهم وسلبَهم أرضهم. عاش طفولته في مخيم يفتقد لأدنى شروط الحياة الكريمة. عاش الحرمان كباقي أطفال المخيمات. تلقى تربية قديمة صارمة. وكثيرا ما حذرته جدته "أنيسة" من معاشرة البنات، ف: "درب البنات شوك". مما يفسر خجله الشديد، وعدم قدرته على كسب ود فتاة تشاركه مقاعد المدرسة في طولكرم، وعدم انسياقه مع الإغراءات الغرامية والجنسية أيام الجامعة، إغراءات نادية وعفاف والصبية الفلاحة، إلى أن تأتي "تيتي" فتأخذه من نفسه ردحا من الزمن. "الجسد المكبل بقيود جدتك الحديدية أنيسة وتعليمات أبيك الصارمة". [ص 132].
يستعيد مشهور مرحلة الدراسة الجامعية في الإسكندرية، بصداقاتها ومعاناتها واهتماماتها، كاشفا عن شخصية مقاومة في المجالين الدراسي والأخلاقي في زمن متغير. بل إنه من خلال ذاته يبرز ملامح الشخصية الفلسطينية عامة: 
"نحن الفلسطينيين الذين كنا محرومين من الوطن. نحاول تفسير عقدنا الوطنية بالعمل الدؤوب. والإبداع يعوضنا وطنا جزئيا عن مرارة التهجير". [ ص121].

للرواية قدرة هائلة على تمثل مختلف الخطابات الثقافية دون السقوط في شرك التلفيقية. بمعنى أن الرواية قد مارست سلطتها في "الأسلبة"، كما يسميها ميخائيل باختين

حصل مشهور على شهادة الهندسة المدنية، ثم هاجر إلى دبي حيث أصبح مقاولا مشاركا في مشروع "واجهة دبي البحرية". وقد تزامنت هجرته مع وفاة الرئيس جمال عبدالناصر. ولكونه شخصية أصيلة لا تنكر الجميل، استدعى جرجس الذي تخرج بدوره من نفس الشعبة ليشتغل معه في المشروع نفسه، وليكون ساعده الأيمن. 
يتذكر زواجه من أميمة وإنجابهما لبرهان وسمر. كما يتذكر وفاتها بعد معاناة مع السرطان الذي أصابها بسبب الهاتف، وحزنه الشديد إثر هذا الحدث الأليم. كما يتألم لاستشهاد صديقه محمد محمد محمد ـ الوفي له ولوطنه  في ساحة الشرف. 
يعرض مشهور في تصريحاته جوانب من حياة ابنه برهان وحفيده كنعان. تخصص ابنه في الهندسة الوراثية. واشتغل في مختبر استنساخ ألماني. لكنه ظل متشبثا بالمواقف الإنسانية والأخلاقية، ويدخل تحت تأثيرها في صراع مع دعاة التسليع والاستعباد. يمثل برهان جيلا مؤسسا للزمن الأخضر الجديد، متشبعا بالأخلاق والروح العلمية، متشبثا بالثوابت الوطنية. جاء على لسان برهان: "الإنسان يولد حرا، ولا يحق لأي جهة أن تصادر حياته، أو حتى سعادته ليعيش بالطريقة التي يراها مناسبة، على ألا يؤذي الآخرين". [ص 202]
ويمثل كنعان الجيل الأخضر الذي يحافظ على البيئة ويحب الحياة. يتزامن الجيل الأخضر مع تطور الثورة التكنولوجية. ومن أجل مد الجسور بين الماضي والمستقبل يلجأ السارد إلى غرائبية ألف ليلة وليلة، مؤكدا على أن الأحلام قد تصير حقائق، بل إن الخيال والحلم يفوقان التطور التكنولوجي المذهل. "فتسألها مازحا: هل هذه هي إحدى طائرات ألف ليلة وليلة المدهشة؟ فتضحك المرأة الكمبيوترية قائلة: مهما طورنا، فلن نستطيع تنفيذ خيالات ألف ليلة وليلة الرائعة". 
وتنتهي الرواية بنعي وفاة مشهور عن عمر يناهز المئة وسنتين، بتاريخ 25/ 9/ 2051، بعد أن أتم روايته. وبعد أن عبر عن رغبته في السفر إلى عكا الجديدة ليكمل ما تبقى من حياته في بيت ابنته سمر، وبمعية احفاده.

Literary criticism
تمثل مختلف الخطابات الثقافية 

يمثل مشهور الذاكرة والشخصية الفلسطينية الأصيلة، وهو الذي "قضى خمس سنوات في الجامعة ولم يدخل بارا أو ملهى". أما برهان فيمثل الجيل العربي الرائد علميا وهو صانع الجيل القادم. ويمثل كنعان الجيل الأخضر، جيل الأمل. 
ترسم رواية فحماوي معالم مستقبل مشرق. والأدب الحق هو أدب المستقبل المؤسس على الماضي والحاضر، كي لا يكون بناء على الرمل أو مُشرعا على الفراغ. 
وهنا نجد أن السارد مشهور وصًاف ماهر، إذ يبرع في وصف الأحداث والأحاسيس. والوصف في الرواية تصويري ذاتي مؤثر. يصور في المشهد التالي، المثخن بالألم، بشاعة المجازر الصهيونية في حق الفلسطينيين، بلغة تجمع بين التشبيه والمجاز. 
"تلك الطائرات التي كانت عائدة متهالكة من انتصارات الحرب العالمية الثانية، والتي لم يبق لديها من شغل، فأهدوها لمن لا يخاف الله، فكانت تتسلى بقصف قوافل الفلسطينيين المهجرين عام 1948، الحاملين أطفالهم بأسنانهم، وهم هاربون من حمم براكين الاحتلال الغاشم، مثل القطط التي تنقل صغارها بأسنانها من مكان الخطر. وبين روائح القتلى المجندلين أم لطفل رضيع أطفأتها طلقة قناص، فأردتها قتيلة على قارعة الطريق، والدم ينزف متخثرا من جيوبها المخردقة، والذباب يدوي على جثتها النازفة. بينما بقي رضيعها ملتصقا بها، ويداه متشبثتان بثديها الذي برد، وهو يرضع رضعته الأخيرة التي لم يكملها بعد!" [ص 22/ 23].
الوصف في الرواية ليس ترفا فنيا، وإنما من خلاله يبني السارد صورا سردية مشحونة بالدلالة القومية والإنسانية:
"تصور أن عكا والإسكندرية يرضعهما بحر واحد ويفطمهما بحر واحد. مصر وفلسطين أخوة من الرضاعة من البحر. وأخوة في اللغة والدين والعادات والتقاليد والجغرافيا والتاريخ والمصالح المشتركة والوطن والحب". [ص 72].
وللمرأة حضور لافت في الرواية. تتنوع أوضاعها ومكانتها. فالجدة "أنيسة" صارمة مؤثرة في شخصية مشهور. ويكتفي هذا الأخير بالتحسر على زوجته أميمة بعد وفاتها، فهي حاضرة غائبة في الرواية. ويمثل بيت ابنته "سمر" مأواه الأخير بعدما تقدم به العمر. وصور علاقة الرجل بالمرأة في المجتمع العربي، وآفة الدعارة في الإسكندرية. 
يصف مشهور في المقطع التالي جمال الفتيات المراهقات وهو يعض على يديه من الفشل، بشكل مؤثر يجعل القارئ يشارك السارد شعوره:
"إنهن بنات جميلات دلوعات يلبسن تنورات قصيرات، تنحسر عن ركبهن الجميلات بشبر أو شبرين. فتظهر إغراء امتلاء أفخاذهن الطافحة بأنوثة مراهقات شهيات. وأنت لا ترفع رأسك، ليس مناكفة لصوت العرب، بل لأنك لست مؤهلا لمشاهدة جماليات النهود الطافحة بالعطاء والدفء والمحبة، الملهبة لمشاعر الصغار والكبار". [ص44].
وحيث إن "النص تناص" كما قال رولان بارت، فمن هذا المنطلق، لاحظنا أن رواية "الإسكندرية 2050" قد أدمجت وأشارت إلى عدد كبير من النصوص الدينية من القرآن والحديث وأقوال الصحابة، ومن التوراة. والنصوص الأدبية: شعر إبراهيم طوقان "غريب الدار"، و قصة زكرياء تامر "النمور في اليوم العاشر"، وأدب جبران" هل تحممت بعطر وتنشفت بنور" [ص 187]. وتشير مرات عديدة إلى كتابه "النبي"، واستحضرت حكاية جلنار البحرية [189], وتلقي ألف ليلة وليلة بظلالها على الرواية. ويوظف السارد التراث الشعبي الفلسطيني، فهو جزء من ذاكرة الشعب، من قبيل الحزورة التالية:

"طاسة طرن طاسة.. في البحر غطاسة ... من جوة لولو... من برة نحاسة!.. شو هي!"
ليكون الجواب هو الشمس. [ص289/ 290]
وتحضر كذلك بعض الأهازيج الشعبية. "على دلعونا وعلى دلعونا، ريح الشمالي غير اللونا." [ص51]. كما 
تضمنت الرواية أغاني ملتزمة: "جيفارا مات" للشيخ إمام، وأغاني سيد درويش (مغني الشعب)، وقصائد شعرية كقصيدة أحمد فؤاد نجم عن الإسكندرية المحروسة. وتستحضر الرواية كذلك مجموعة من الشخصيات التاريخية والفنية القديمة: كيلوباطرة والملكة بلقيس وشكسبير.
باختصار، تدخل هذه الرواية في تفاعل عارم مع لغات التواصل الاجتماعي الأخرى كالدين والتاريخ والسياسة والخيال العلمي والأدب والفن عموما، مما يميزها بالغنى المعرفي والثقافي والانفتاح. للرواية قدرة هائلة على تمثل مختلف الخطابات الثقافية دون السقوط في شرك التلفيقية. بمعنى أن الرواية قد مارست سلطتها في "الأسلبة"، كما يسميها ميخائيل باختين. لقد كان انفتاحه على تلك العوالم وبحثه عن أدوات جديدة محاولة لتجاوز الرتابة والذبول. والفن بما هو فن فهو يضاد هاتين السمتين المعيبتين.