الإسلاميون في السودان.. ثورة داخل ثورة

ثورة الشعب على الإسلاميين وانقلاب الإسلاميين على الرئيس ولا يمكن أن تنجح إحداهما إلا بفشل الأخرى بدأت ثورة الشعب بعد انقلاب  1989 وانتظمت فيها سلسلة من الأعمال، تمايزت إلى سلمية وعنيفة وانتصرت السلمية وبدأ انقلاب الإسلاميين في 1999 مع المفاصلة بينهم.

بقلم: عمر الترابي

عمل الإسلاميون في السودان على ترسيخ حكمهم عبر حزم من الإجراءات: بدأت من الجيش والقوات النظامية التي تمّت أسلمة -بعضها- بشكل منهجي وسريع، صرَف أغلب العقيدة القتالية من مصالح الوطن القُطري، إلى آفاق التنظيم الدولية والتوسعية. وتمّ فصل ما (قُدِّر) بأنه أزيد عن مئتي ألف موظفٍ مدني من وظائفهم في حملة “الصالح العام”؛ التي نَحَّت أساتذة الجامعات ومدراء المصارف وغيرهم، فأُفرِغ -بسببها ولأسباب أخرى- السودان من نخبته، وحلّت محلها نخبة إسلامية أو متحالفة معهم أو متأقلمة على هذا الحال. وبدأت نُخب جديدة في التشيؤ، بديلةً عن تلك المهاجرة، ولكنها كانت أقلّ جودة، وجدوى، في جوٍ جديد يمقت التاريخ والقيم المتوارثة، ويعيش بالنقد وكراهية العالم.

على مدى عشر سنوات من الأدلجة الرفيعة، تمّ تدجين جيل كامل من مواليد الستينيات والسبعينيات، وضمهم لدائرة التفكير الإسلاموي، وضبطهم عليه بشكلٍ آلي محكم، أبَانَ أن التنظيم ليس في حاجة لإبقاء “الأجسام الهيكلية للحركة الإسلامية” الحزبية، ما دام التجنيد العام يحقق الأهداف. هذه اللحظة التي أضاعت فيها الحركة السودانية الأكثر تمددًا حينها، سر تفوقها، وآمنت دون وعي، أنّها جعلت كل البيض في سلة الحكم، ومحت وهجها الحركي الشعبي، في صولجان الحكم والسوق. أو كما عبّر أحد الظرفاء “جمعونا في المساجد (قبل الحكم) وذهبوا هم إلى السوق (بعد الانقلاب)”.

في آخر العشرية الأولى حدث انشقاق داخل جسم الحكم؛ لينفصل “التنظيم” عن النواة الأولى له، تلك التي كان يقودها د. حسن الترابي (ت ٢٠١٦)، الذي خسر النواة الصلبة للتنظيم وكل العسكريين، إلا بقيّة من المدنيين الذين دُرِّبوا على السّلاح؛ تصر الحكومة -في سنوات حياة الترابي، على تنسيبهم لخليل إبراهيم (قتل ٢٠١١) الذي قاد تمرّدًا عسكريًا في نواحي دارفور!

صار الحكم -إذن- لرجال الجيش المقربين من البشير، والمدنيين الإسلاميين التابعين لشيوخ مذكرة العشرة التي خلقت المفاصلة، بالمناصفة للمرة الأولى بعد أن استتب الأمر في أوله للمدنيين فقط، وكان دور العسكر هامشياً. ولكن بالرغم من هذا التحوّل، فإن المدنيين من الإسلاميين عبر قادة الحركة الإسلامية الأذكياء؛ كالأستاذ علي عثمان محمد طه، والدكتور نافع علي نافع، حافظوا على السيطرة الحقيقية، متمكنين من مقابض السلطة، وتمكن بعضهم من إقناع رأس الدولة أن يحافظ على صلة مع المدار الذي تتزعمه إيران، ويندرج تحت الإخوان المسلمين؛ لا وفاءً لدَين محاولة اغتيال مبارك (1995) الباهظ، أو استثمارًا لاستضافة السّودان مجموعةً من المتخاصمين مع دولهم تحت اسم المؤتمر الشعبي الإسلامي؛ وإنما حفاظاً على قنوات اقتصادية بديلة عن النظام العالمي!

أعلن البشير حماسه لملف الحوار الوطني، واستضاف عشرات الأحزاب، وعيّن رموز المعارضين في مقاعد حكومية، وليضمن نجاعة ذلك التحوّل، جعله في قالب عربي، وأرفقه بسياسة تشبه السودان القديم ما قبل ١٩٨٩، فقطع علاقته بإيران، وبدل سلوكه مع جيرانه الخارجيين، وجعل هذا ضمن إعلانات الحوار، آملاً أن ذلك سيدفع الحلف العربي الخليجي لاستيعابه سياسيًا، ولدعمه على المحور القديم من الإسلاميين ونصرته، وتعويض ما كان يدرّه عليه محور الإسلام السياسي من مال عبر إيران وغيرها.

لا يوجد أهميّة لموقف مَن يتعاطى مع الواقع السياسي في السودان؛ إذا ما اتفق على ركائز جوهرية، منها: أن هناك بعثًا سياسيًا جديدًا في السودان، وثمة أزمة حكم ودولة فمجتمع، ثم للآراء من بعد أن تتفرع حول تقييم أداء النخب السياسية والحكومة والمعارضة والنخب والإعلام والمنظّرين. وليس من الحكمة فصل ذلك عن العالم.

إن في السودان حركتين: ثورة الشعب على الإسلامويين، وانقلاب الإسلاميين على الرئيس. ولا يمكن أن تنجح إحداهما إلا بفشل الأخرى! بدأت ثورة الشعب بعد انقلاب ١٩٨٩، وانتظمت فيها سلسلة من الأعمال، تمايزت إلى سلمية وعنيفة. وانتصرت السلمية بالحوار والاقتناع والإحباط. وبدأ انقلاب الإسلاميين في ١٩٩٩ مع المفاصلة بينهم. وتضاعف بعد انفصال الجنوب. يستخدم الإسلامويون لفظ الثورة لتغطية انقلابهم؛ كما استخدموا خديعة اذهب إلى القصر وسأذهب إلى المنشية؛ لتمرير الانقلاب على الديمقراطية في ١٩٨٩.

إذ يشاهد المراقب، ما يجري في سوريا والعراق وليبيا، ينظر بعين قلقة على تلك الشعوب في المستوى الأول، وهي شعوب متعلمة طالما يُنظر إليها في العالم العربي على أنها مصدر فخر، فقد نالت أوائلها الحظ الأوفر في التعليم والمعرفة، ولكنها تعيش اليوم محنة أكبر من أن تنحصر أو تنزوي، أزمة تهز بلدانهم، وتتطور لتشمل المنطقة كلها.

كيف انكسرت هذه الأمم الكبرى، وكيف غزاها التطرف، واشتعلت نيران الفتنة فيها، وأصبح الدم قوتًا لبعض أهلها، والانتقام وعد الصباح، وصار عداد الضحايا صاعدًا بلا توقف؟ هل انقضت الحكمة أم ماتت الرؤية أم إن الخيوط باتت أكبر من أن تجمعها يد واحدة، أو تراها عين؟ وماذا عسى المكلوم الحزين أن يستفيد من مشاهدة هذه الأشياء؟

إن التفرقة الدينية، والتمييز الثقافي بين مكونات الشعب الواحد، داخل إطار الدولة الواحدة، يتسبب بخلق أزمة بعيدة المدى، تنفجر في لحظات حرجة، كما جرى في العراق، إذ وظّف خصومه التمذهب السني والشيعي، في الحرب، واليوم، فعلاج أي قضية في هذا البلد العظيم، تمر عبر آلاف الفخاخ الطائفية.

حينما يتمايز الناس على أساسات لها تاريخ، يصبح كل شيء مسمومًا؛ بيئة المواطنة، وفضاء الأفكار، ويتلوث الهواء بالكراهية، التي لم تأت فعلاً من الاختلاف بين مذهبين أو جهتين أو عرب وفرس وكرد، ولكن لأن أحدًا ما، استطاع أن يلعب على أوتار هذه الاختلافات.

نشر في مركز المسبار للدراسات والبحوث- دبي
ملخص لمقال: "الدليل إلى فهم لعبة السجن والقصر في السودان"