الإسلاميون واليسار.. حب من طرفٍ واحدٍ

يتحمس اليسار للإسلاميين مرة بعد أخرى رغم الخيبات.

عندما قام آية الله الخميني (ت1989) ببث رسائله عبر الكاسيت، حتى هناك مَن عرفها بـ«ثورة الكاسيت»، اشرأب «اليسار» إلى عهد ثوري جديد بالمنطقة، حتى أن محسوبين على التروتسكية (نسبة إلى القائد السوفييتي ليون تروتسكي (اغتيل 1929) أصبحوا خمينيين. وإنْ نسيت فلا أنسى الحاج أبا صلاح، اليساري العراقي القديم وتاجر القماش بسوق الشَّورجة ببغداد، وهو يستمع خلسة إلى نداءات الثَّورة، ويبشرنا بها، وكان يحسب أن اليسار سيطوي المنطقة، ويخلصه من «البعث». كذلك لا أنسى المحامي اليساري، الذي هتف تحت المطر، بهجةً بخروج الشَّاه محمد رضا (ت1980) من طهران، ووصول الخميني بعون فرنسي استثنائي.

خلال «الرَّبيع العربي»، ومع الدَّوافع الإسلامية «الإخوانية» الصَّارخة، إلا أن اليسار، بلا تعميم، وجد في هذا الرَّبيع ما خسر مِن أماني في «الثَّورة الإيرانية»، ظهر هذا بعد تراجع التَّجربة «الإخوانية» بمصر، على اعتبار أن السُّلطة «الإخوانية» كانت منتخبة، وأن «الإسلام المعتدل»، هو الأقرب إلى اليسار، وبالتالي تحقيق شيء مِن التَّقدمية، مِن دون النَّظر إلى «الحاكمية الإلهية»، وما تعنيه مِن تطبيق الشَّريعة، وكأن إيران والسُّودان وأفغانستان، لم تُطبق فيها تجارب إسلامية سياسية، ناهيك عن استعداد «الإخوان» في أن يصبحوا هراوة بيد السلطة ضد اليسار، وعندما تكون هراوة السُّلطة عليهم يحاولون كسب التَّضامن مع اليسار، تحت مبرر «عدو عدوي صديقي».

استقتل «يساريون» مِن أجل سلطة «الإخوان» بمصر، تحت غطاء الدفاع عن الديمقراطية، لكنَّ لا أحد يتذكر ما حدث بالضَّبط، كيف جرت الانتخابات، وماذا كان «الإخوان» يرسمون، في عامهم الأول! صارت أميركا، بعد باراك أوباما، نقطة لقاء أُخرى بين الإسلاميين واليساريين، خصوصاً في النِّزاع بين طهران وواشنطن، حتى أن قياديا يساريا ظهر ينتقد السفارة الأميركية ببغداد لأنها تحدثت عن ثروة الولي الفقيه، مع أن أمين حزبه الأسبق، وقادة آخرين، اعتقلوا بإيران وخرجوا بعد وساطة عدن آنذاك. كذلك الحال مع اليسار الأوروبي والأميركي، فقادة منهم رفعوا الأصابع الأربعة في المساجد تضامناً مع «الإخوان».

اختلف موقف «اليسار» العراقي، على وجه الخصوص، تجاه الموقف مِن الحرب العراقية الإيرانية، ومال الكثيرون إلى جانب الحق الإيراني فيها، بينما اعتبر الشُّيوعي القديم، أحد المؤسسين للخلايا الماركسية الأولى، زكي خيري (ت1995) انتصارات إيران، التي كان يُهلل لها الإسلاميون العراقيون وهم سُلطة اليوم، اعتداءً على الوطن، وهنا «ليس كل عدو عدوي صديقي»، ولا بُد مِن اتخاذ موقف وطني.

لم يأخذ اليساريون الذين ظلوا يعتبرون الثَّورة الإيرانية والسُّلطة الدِّينية التي انبثقت عنها، ما حلَّ بحزب تودة (الشّيوعي الإيراني)، مِن إعدامات واعتقالات، حتى ظهر قادته على شاشة التلفزيون يعترفون بالإكراه بعمالتهم لدولة أجنبية، فقد ظلت العداوات والصداقات لديهم تقليدية، بينما جماهير هذا الحزب كانت مِن أبرز أعمدة الثَّورة.

ينظر إلى إيران بعين الثَورة لا بعين الدولة التي أسست للحسبة الدينية، بوجود الشّرطة الدينية، وفرضت الحجاب وقمعت الفنون، وهي البلاد التي كانت ترعى الفنون والتُّقدم والانفتاح الاجتماعي، وإذا كانت الملكية ضد اليسار، فالثَّورة منعت وجوده العلني والسِّري أيضاً.

كانت الثَّورة الإيرانية، ومهما ما آلت إليه مِن نتائج، قد جعلت إيران آنذاك الأقرب لجمهورية اليمن الدِّيمقراطية، مع قسوتها في ضرب «اليسار» الإيراني، لكنَّ نضيف عاملاً آخر للتقارب بين طهران وعدن، وهو العداء المشترك لـ«البعث» العراقي، والرِّضا على «البعث» السّوري، صحيح أن سوريا استقبلت المعارضة العراقية، بشروطها طبعاً، لكنها أدخلت جحافل الإرهاب إلى العراق (2003)، فتأسست «القاعدة» و«داعش»، لكن الموقف «اليساري» العراقي والعربي متيمناً بالعلاقة السَّابقة.

غير أن ما هو واضح في العلاقة بين الإسلاميين واليساريين أنها حبُّ مِن طرفٍ واحد، فاليساريون في عقيدة الإسلام السياسي كفرة ملحدون أعداء للإسلام، فكلُّ مَن يتحدث عن فصل الدِّين عن الدولة أو السياسة، ولو صلى وصام وزكى، عدواً لدوداً، لا ذمة ولا قيم عنده.

نقول: يكون الحب الناجح عادةً مِن طرفين، لا مِن طرف واحد! أرى «اليسار» مع الإسلاميين سيعيش خيبة «تودة» مع الخمينيين، وفي قصص العشق خيبة جميل مع بثينة: «لما شكوت الحُبَّ صرتُ كأنما/شكوتُ الذي ألقى إلى حَجرٍ صلدِ»(الأصفهاني، الأغاني)، وحاشا بثينة أن تتنمر تنمر عمائم الثَّورة، فلم يَسلم منها مراجع دين كبار ولم يسلم منها مَن كانوا سبباً بوصول الخميني إلى باريس، والحظوة الإعلامية والسياسية التي حظي بها هناك، بل وبوصوله سالماً إلى طهران، وقيامهم بأدوار المنسقين والمترجمين، وعادوا معه على متن الطَّائرة نفسها (فاطمة طباطبائي زوجة أحمد خميني، ذكرياتي)، مثل وزير الخارجية صادق قطب زادة (أعدم 1982)، ورئيس الجمهورية حسن بني صدر الذي فرَّ بجلده، وآخرون كثيرون.

يعلم أهل اليسار، أن الإسلام السياسي لا يعترف بتقدمية ولا ثورية، وأنه مجرد مرسل حنك العِمامة السياسة والحزبية، ومع ذلك، ينتظر اليسار مستقبلاً زاهراً معه! نظم الشيخ جعفر الحِلي (ت1897) صاحب البيت المشهور: «يا قامة الرَّشا المهفهف ميلي/بظماي منكِ لموضع التَّقبيلِ»، قائلاً: «يا مرسلاً فضل العِمامةِ متحنكاً/أصبحتَ ذا فضلٍ على إبليسِ/ خشنت ثوبك كي تُنعم زوجةً/ لبست بزهدك حلية الطَّاووس/ إن كان كل مقدس هو هكذا/يا رب فحفظنا من التَقديس»، (ديوان الحلي، سِحر بابل وسجع البلابل، تحقيق: المرجع كاشف الغطاء).