الإسلام الجهاديّ يحوّل "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" إلى أصل من أصول الاعتقاد

هدى بحرون كتبت بحثها "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القرآن والسنّة" من منظور ينتصر لقيم السلام الكونيّ والمواطنة المعاصرة.
المشكلة تكمن في أنَّ الموقف الجهاديّ المتصلّب المعاند لا يصدر من فراغ
وتتبّع الباحث عبدالباسط القمّوديّ يتتبع تاريخ تشكّل المعنى العنيف للمفهوم

تبيّن المتابعة التاريخيّة التراجعيّة للمبدأ الإسلاميّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنّ خلاصته الجهاديّة الرّاهنة حصيلة تأويلية جرت على غير المنوال التأويليّ الإسلاميّ القديم الذي استخرج هذا المبدأ من القرآن والحديث ليصيّره مبدأ أخلاقيّاً وفقهيّاً مرتبطاً بالشريعة، ووظيفة منوطة بالمجتمع والدولة. 
وقد رأى مجموعة الباحثين العرب الذين شاركوا في هذا الكتاب "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. الأعلام والنصوص" الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود أن التأويل الجهادي الرّاهن ارتبط لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلحظة عنيفة من تاريخ الحضارة العربيّة الإسلاميّة، أفقدته أبعاده العقائدية التي طوّرها المعتزلة، والفقهيّة التي أرادها الفقهاء لشروط المأسسة السياسيّة والسلوك الاجتماعيّ، والأخلاقية التي حدسها أخلاقيو الإسلام كمسكويه والتوحيدي والماوردي. بل أدرجته في أتون حرب كونيّة تحوّل فيها عنوان العدوّ بفعل تعريف اصطلاحي مضيّق جديد لعبارة الجاهليّة، إلى كلّ من لم يدخل ضمن المجال الذي تعيّنه لدار الإسلام. 
ومن ابن تيميّة المصدر المشترك لكلّ الجهاديّين تقريباُ، ولاسيما بكتابيه الحسبة في الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى عبدالقادر بن عبدالعزيز صاحب رسالة العمدة، لم يتوقّف التطبيق الجهاديّ لهذا المبدأ على تأويلاته النظريّة الكبرى منذ سيّد قطب وصولاُ إلى أبي مصعب السّوري، مروراً بعبداللّه عزّام، وإنّما تحوّل هذا الموقف العنيف إلى حالة منفلتة فعلاُ محتملاُ دون مرجع إحالة معروف في الكثير من الأحيان.
الكتاب أشرف عليه د.بسام الجمل وأعده ونسقه وقدم له د.أنس الطريقي الذي رأي أنَّ مبدأ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر واحد من أبرز المبادئ الإسلاميّة التي جاءت بها الرّسالة، في الفهم الإسلاميّ؛ لذلك احتفى به الموروث الفقهيّ والكلامي القديمان أيّما احتفاء. فتحوّل هذا المبدأ من واجب أخلاقيّ عامّ إلى فريضة، إلى أساس من أسس العقيدة والإيمان عند المعتزلة، فإلى مؤسَّسة سياسيّة تضطلع بها الدولة حسبةً وجهادا. ولئن أبقى الفكر الإسلاميّ القديم تأويل هذا المبدأ مفتوحاً على إمكانات الفهم المختلفة في سياق جدل الرؤى المفسّرة للآيات والأحاديث المتّصلة به، فإنَّ استقدامه حديثاً، ثمَّ في الفترة الرّاهنة، كان عرضة لعمليّة احتكار دفعت به في أتون الحرب الكونيّة التي تخوضها شريحة من دعاة إحياء إسلاميّ راديكاليّ متعدّد الدوافع والأبعاد.
وقال الطريقي "بين الفترتين لم يتغيّر السعي إلى تحيين المبدأ النصيّ وفق متطلّبات الواقع المعيش. وبهذه الصورة بحث الإسلام الجهاديّ المعاصر، تماماً مثل الإسلام الكلاسيكيّ، في النصّ والحديث وكتب الفقه والتفسير عمّا يؤسّس فهمه ويمدّه بسندات المشروعيّة. ومكّنته الآليّة التأويليّة نفسها من أن يحوّل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى أصل من أصول الاعتقاد يتقدّم الصلاة والزكاة أحياناً، ويُعدّ شرطاً أوّل للإيمان، إذ يتحقّق به التنفيذ العمليّ للتوحيد. إلّا أنَّ الذي تغيّر هو أنَّ الباب التأويليّ المفتوح على تنوّع الفهم والتحيين، الذي دخل منه دعاة الجهاد الإسلاميّ، أغلقوه وراءهم وابتلعوا المفاتيح. ولئن كانت خطورة هذا العمل في كونه يحتجز الإسلام الصالح لكلّ زمان - كما يقرّ بذلك جميع معتنقيه - خارج الزمان، فإنَّ ما يضاعفها أن يصير من داخل ذلك الحجز مشرّعاً للعنف والحرب ضدّ الكلّ. لن يجد بفعل هذا العمل من اعتنق الإسلام، كما من لم يعتنقه، في هذا الدين غير صورة قصوى للقسر والترهيب. وبدل أن يبقى هذا المبدأ، كما يرى كثيرون، مرتكزا تأسيسا أخلاقيّا فرديا وجماعيا لحياة المسلم المعاصر في المجتمع الكونيّ الكلّي، يصير قوّة قمع ماديّ ومعنوي مانعة من كلّ انتماء إلى الإنسانيّة. 
وأوضح الطريقي أنه يبدو في فضائنا الوجودي والمعرفيّ الرّاهن من الأهميّة بمكان أن نعيد قراءة هذا المبدأ من المنظور الذي نبّه إليه المستشرق البريطاني مايكل كوك، بوصفه مدخلاً من المداخل الممكنة لتأسيس شروط المواطنة المعاصرة، وذلك من جهة إلحاحه على المسؤوليّة الفرديّة في تحقيق الخير العام. ولكنّه أمر لا يتأتّى إذا لم نتجرّأ على تحريره من سجن معركة الاستيلاء التي تُمارَس عليه، تماماً كما تُمارس على كلّ الإسلام من قبل دعاة الجهاد الإسلاميّ. ولئن يلوح منطقيّاً وشرعيّاً أن يجد هذا الطموح بعض معارضة من قبل مواقف ذات منطلق إسلاميّ، تبعاً للاختلاف الضروريّ في المرجعيّات وزوايا النظر والحقّ في التأويل، فإنَّ المشكلة أنَّ هذه القوى الإسلاميّة المتطرّفة تتمسّك، بمقتضى الحقّ نفسه في الاختلاف والتأويل، بفهم حربيّ قتالي لهذا المفهوم ينسف التعايش من أساسه. 
وأكد أن المشكلة تكمن هنا في أنَّ الموقف الجهاديّ المتصلّب المعاند لا يصدر من فراغ، إنَّما هو واجد في القرآن والسنّة، وفي تراث علوم القرآن، ما يؤسّس مواقفه على أسس جداليّة تقنع الكثير من معتنقي الإسلام بصحّة تأويلهم. وفي هذا السياق يصحّ تقرير رضوان السيّد أنَّ سلوك الإسلاميّين المتشدّدين في العصر الحاضر هو، في وجه منه، عودة للرّبط بين الجهاد ومبدأ الأمر بالمعروف. وعلى الرّغم من إدانة الأعمال العنيفة من قبل هؤلاء المسلمين أنفسهم، فإنَّ مشاعر التأييد المضمرة عند أغلبهم، قد تحوّل بعضهم إلى جنود احتياط في انتظار التأهيل. وتبعاً لهذا تصبح محاورة هذا الفكر المتشدّد في شأن هذا المبدأ محاورة على التأويل وشروطه، قد تكون أوّل مضامينها بيان تاريخيّة تأويل هذا المفهوم في كامل الفكر الإسلاميّ قديمه ومعاصره، وارتباطه بمسارات أدلجة لم تكن في بعض وجوهها وفيّة لاتّساع المتاح التأويلي في القرآن، كما هي الحال مع الجماعات الإسلاميّة المتطرّفة. 

الباحث محمّد سويلمي يهتم بالأدلجة السياسيّة الكامنة في التأويل الجهاديّ لهذا المفهوم، عبر تعرية ارتباطاته بالمفاهيم السياسيّة الأساسيّة للإسلام السياسيّ، من قبيل الحاكميّة، والجاهليّة 

من هذا المنظور الساعي إلى إيجاد المدخل الرئيس لاستعادة الحقّ في التأويل، يتصدّى الباحثون المشاركون في الكتاب "هدى بحرون، عفاف مطيراوي، جمال اشطيبة، محمّد سويلمي، صالح الأحمدي، عبدالباسط القمّودي، محمد عبده أبو العلا" لمبدأ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر انطلاقاً من بيان مدى ارتباط الفهم المتطرّف لهذا المبدأ بقراءة تاريخيّة محفوفة بقبليّاتها الكامنة في الذّاكرة والوعي معاً، تنأى به من فسحة المعنى القرآني إلى ضيق الدعوى القائمة على فكرة الحقيقة الواحدة، ووهم امتلاكها. 
واستناداً إلى هذه الأهداف، أشار الطريقي إلى أن الموادّ المؤثّثة لهذا الملفّ كتبت في تقاطع المحاور الآتية التي وجّهته: أولا الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في النّصوص التأسيسيّة للإسلام، وتعدّد الدلالة: اهتمّ هنا بكشف اتّساع مدلول هذا المبدأ في القرآن والسنّة. 
ثانيا: الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في التراث الكلاسيكيّ الإسلاميّ: جدل النّصوص والواقع. وقع التركيز هنا على توضيح تاريخيّة التأويل المنجز على مفهوم الجهاد، بما في ذلك التأويل الحنبليّ التيميّ الدمشقيّ للمبدأ، باعتباره التأويل المرجعيّ للجماعات المتطرّفة. 
 ثالثا: مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في نصوص الجماعات الإسلاميّة المتطرّفة: تمّ التركيز على مدلول المبدأ، والمقولات الفرعيّة، والمستندات المعرفيّة (كالموقف من العقل) والمرجعيّات الفكريّة التراثيّة، والأهداف الإيديولوجيّة، وكشف مدى توافق التأويل المتطرّف مع المتاح التأويليّ القرآنيّ. 
رابعا: الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، مداخل تأويل إيجابيّ مؤسّس للخير الجماعي، بما هو حقّ في الوجود، وتحسين للوجود الجماعيّ. 
في هذا الإطار كتبت هدى بحرون بحثها "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القرآن والسنّة" من منظور ينتصر لقيم السلام الكونيّ والمواطنة المعاصرة؛ فمارست منهجاً جمع بين الأنثروبولوجيا والدراسة المقارنة والبحث المعجمي والاصطلاحيّ، لتؤكّد أنَّ دلالة هذا المبدأ في القرآن والسنّة لم تخرج عن التوجّه التوحيديّ العامّ للتوحيد الإبراهيميّ نحو تحقيق السلام الإنسانيّ. وبهذا المنظور عينه، ولكن بمنهج دراسة المتخيّل البشريّ التي تقرّ أنَّ الأفكار والاعتقادات تبنى تراكميّاً في المتخيّل أوّلاً، ذهبت الباحثة عفاف مطيراوي في بحثها "مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المتخيّل الإسلاميّ" إلى أنَّ المفهوم في أصله تعبير عن قيمتين إنسانيّتين أصيلتين هما الخير والشرّ، وأنَّ الإسلام هو الذي قبض عليهما دون سائر الأديان ليحوّلهما إلى فريضة دينيّة تؤسّس للجهاد في سبيل اللّه. ومن هذا المنطلق، حاولت فهم تشكّل هذا الواجب في المتخيّل الإسلامي، فبحثت في جذوره والآليّات التي أنتجته، ووظائفه، ورمزيّاته. 
أمّا الباحث جمال اشطيبة، فقد عاد إلى واحد من أساطين الفكر المقاصدي، هو علّال الفاسي، ليستعين به في التدليل على ضرورة إعادة هذا المفهوم إلى سياقه الدينيّ العامّ الأصليّ، الذي تتابعت الرسل والديانات على تشييده مساهمةً في تشييد الإسلام. 
واهتمّ الباحث محمّد سويلمي بالأدلجة السياسيّة الكامنة في التأويل الجهاديّ لهذا المفهوم، عبر تعرية ارتباطاته بالمفاهيم السياسيّة الأساسيّة للإسلام السياسيّ، من قبيل الحاكميّة، والجاهليّة. 
وفي بحثه المتميّز "تشكّل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من التوصيف إلى التوظيف، وأثر ذلك في نشأة التطرّف الدينيّ" بيّن صالح أحمدي الكيفيّة التي تمَّ بها من خلال التراث الفقهيّ والتفسيريّ تشكيل هذا المبدأ ضمن ثنائيّة ضديّة تقابل بالضرورة بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولهذا سعى إلى تحريره من سجن هذه المقابلة اللّغويّة الثقافيّة، ليستعيد بُعده الأخلاقيّ التاريخيّ المهدور. 
وتتبّع الباحث عبدالباسط القمّوديّ من جهته تاريخ تشكّل المعنى العنيف للمفهوم، انطلاقاً من مدلوله الأخلاقي المفتوح في القرآن، مروراً بعمليّة شرحه، ثمّ مأسسته في النّصوص الثواني جهاداً وحسبة تختصّ بهما الدولة، وصولاً إلى تنظيراته الجهاديّة بدايةً من حسن البنّا. 
ومن منظور مختلف عن منظور تاريخ الأفكار، طرق الباحث محمّد عبده أبو العلا ظاهرة التطرّف الدينيّ عامّةً من بابها الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ، وسعى إلى البحث عن أسبابها في هذه العناصر المؤسّسة للمجال الواقعيّ الإسلاميّ، وردّها إلى مظاهر الفساد السياسيّ والظلم الاجتماعيّ والتهميش. 
وفي عودة إلى التراث الإسلاميّ شبيهة بالتي مارسها جمال اشطيبة عاد الباحث مصطفى رويجل إلى التراث المعتزليّ ليقدّمه دليلاً على تأويل إسلاميّ ممكن لهذا المبدأ يمكن أن يجعله أساساً لثقافة التسامح والتعايش والسلم، تحت عنوان اعتزاليّ جعل هذا المبدأ أساساً للإيمان هو عنوان: "توقّي إلحاق الضرر بالآخر". 
وتبعاً للأهميّة المرجعيّة البالغة في الموضوع التي يكتسيها كتاب المستشرق البريطاني مايكل كوك "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفكر الإسلاميّ" أنجزت الباحثة عفاف مطيراوي قراءتها النّقديّة. وفي قسم الحوارات، تولّى الباحث باسم المكّي محاورة متخصّص بارز في الموضوع هو فيصل سعد حول تاريخ هذا المبدأ، وحول الخلط الواقع بينه وبين مؤسّسة الحسبة، وحول هفوات مايكل كوك في فهم هذا المبدأ الإسلاميّ الأصيل.