الالتفاف على الحل السياسي في ليبيا

تعيد التصرفات التركية والقطرية الأزمة إلى المربع الأول، وتقطع الطريق على التحركات الجادة لتوحيد المؤسسة العسكرية الليبية.
أنقرة أوعزت إلى أذرعها في حكومة الوفاق بالتمسك بالاتفاقيات والتفاهمات الأمنية والاقتصادية
قطر قامت بتوقيع اتفاق أمني مشبوه مع داخلية الوفاق في توقيت بالغ الحساسية
تعيد التصرفات التركية والقطرية الأزمة إلى المربع الأول وتقطع الطريق على التحركات الجادة

قطعت الأزمة الليبية شوطا مهما باتجاه الحل السياسي مؤخرا، وبدت التسوية أقرب من أي وقت مضى، بعد أن تمخضت اجتماعات اللجنة العسكرية في جنيف يوم الجمعة الماضي عن توقيع اتفاق شامل لوقف إطلاق النار.

لكن يبدو أن تركيا وقطر، والمتواطئين معهما، يصممون على تعطيل الخطوة، وما يتلوها من تصرفات إيجابية.

قامت الأولى بالتشكيك في وقف إطلاق النار مبكرا، وألقت بقذائف من لهب في وجه الجيش الوطني الليبي، وأعلنت عدم التخلي عن توجهاتها التي ضاعفت الاحتقان، ضاربة عرض الحائط بالبنود التي تضمنها اتفاق جنيف بشأن وقف التدخلات الخارجية السافرة، والتخلص من كل فرق المرتزقة.

وهو ما يعني أن نهجها سوف يستمر على حاله، ولن يتغير بموجب المستجدات الرامية لتفكيك خيوط الأزمة، بل تواصل تحديها للمجتمع الدولي الذي بارك التسوية السياسة، واتخذ مجموعة من الخطوات العملية للوصول إليها.

أوعزت أنقرة إلى أذرعها في حكومة الوفاق والمجلس الأعلى للدولة في طرابلس، التمسك بالاتفاقيات والتفاهمات الأمنية والاقتصادية التي وقعت عليها في أجواء ملتبسة، وعدم التفريط فيها مستقبلا، في محاولة لوضع العصي بين عجلات أي حكومة جديدة في ليبيا، وأملا في خلق أمر واقع يجبرها على عدم نقضها، وسعت إلى كل ما من شأنه يضع العراقيل أمام خروجها ومرتزقتها والمتحالفين معها من المعادلة الليبية.

قامت الثانية، أي قطر، بتوقيع اتفاق أمني مشبوه مع وزارة الداخلية في حكومة الوفاق بطرابلس، الاثنين، في توقيت بالغ الحساسية، حيث يدور نقاش حول رحيل الحكومة ورئيسها فايز السراج وغالبية المتعاونين معه، تمهيدا لتهيئة المسرح لمرحلة جديدة، تنتهي فيها كافة المظاهر السلبية التي سادت طوال السنوات الماضية، وفي مقدمتها إنهاء دور العصابات المسلحة ووقف الدعم الذي تتلقاه من تركيا وقطر.

تصر الدوحة على أن تكون متناغمة مع البوصلة التي رسمتها أنقرة في ليبيا وغيرها من الصراعات، وتأبى أن تتعاون مع المجتمع الدولي الذي بدأ يشعر أن استمرار الأزمة على ما هي عليه سوف يؤدي إلى تداعيات كبيرة، تغير من توازنات القوى الكبرى، وتخلق بؤرة توتر دائمة قد يصعب تطويقها.

وتعمل الجماعات المتطرفة من أجل عدم مبارحة ليبيا الصراع الحالي، فإذا لم تتمكن من السيطرة على مفاصل الحكم تكون لديها الأدوات التي تساعدها على تفشيل من يريدون تصويب مساراته لاحقا.

تعيد التصرفات التركية والقطرية الأزمة إلى المربع الأول، وتقطع الطريق على التحركات الجادة التي بذلتها مصر وبعثة الأمم المتحدة لتوحيد المؤسسة العسكرية الليبية، وإيجاد حلول عملية لنزع فتيل الدور الخطير الذي تقوم به ميليشيا تحولت طرابلس إلى منطقة يصعب توفير الأمن والهدوء والاستقرار فيها، والتفكير في تجهيز مقر آمن في مدينة سرت تمارس الحكومة الجديدة والهيئات السيادية دورها منها.

يحتاج الزخم الإيجابي الذي تشهده الأزمة وقفة حاسمة من المجتمع الدولي مع القوى التي تريد تفشيله في الداخل والخارج، عقب شعورها أن المرحلة المقبلة لن تسمح بإعادة إنتاج تصرفات سلبية سابقة.

وكل الحيل التي تقوم بها من الضروري مواجهتها بحسم، وعدم التهاون مع الراغبين في استمرار العبث، والإصرار على تطبيق قرارات الأمم المتحدة بشأن الجهات التي ترتكب تجاوزات في مجال تهريب الأسلحة ومنع استمرار تصدير المرتزقة والعناصر المتشددة إلى ليبيا.

أخطأت الأمم المتحدة بنقل مؤتمر جنيف للحل السياسي إلى ليبيا، وأخطأت أكثر بتحويله إلى منتدى كلامي يعقد في تونس، يضم الكثير من العناصر المؤيدة للحكومة الحالية وجماعات الإسلام السياسي والدول الداعمة لهما.

وسوف تخطئ أكثر إذا تعاملت مع مخرجاته على أنها وسيلة لاختيار العناصر التي تقود الحكومة والمجلس الرئاسي الفترة المقبلة، لأنها بذلك تعيد تكرار عيوب اتفاق الصخيرات، وما نجم عنه من نتائج أعاقت حل الأزمة، وتمكين القوى العقائدية من الهيمنة على السلطة والجيوب الأمنية التي ترافقها لتسهيل مهمتها.

بالتالي تضرب الخطة الرامية لتوحيد الهيئات النظامية في مقتل، وهو ما تسعى إليه تركيا وقطر، حيث تعلمان جيدا أن عافية المؤسستين العسكرية والشرطية أكبر عقبة تواجه الميليشيات على الساحة الليبية.

لا أعلم سر غرام بعثة الأمم المتحدة في ليبيا بمسألة المنتديات التي تتولى توفير الحلول السياسية، فقد أصر رئيسها السابق غسان سلامة، على عقد ملتقى جامع في غدامس وأخفق قبل التئامه، وكان فشله مقدمة لتغيرات في المشهد العام، وبداية العد التنازلي لتخليه عن منصبه، لأن هذه النوعية من الحوارات تتكاثر فيها مشاركة العناصر المتطرفة التي تتدثر برداء سياسي خادع.

وأخشى أن يكون مصير ملتقى تونس المباشر نفس مصير الملتقى الأول الذي لم يكتمل، وينفض أيضا قبيل انعقاده.

يوحي اختيار مسمى منتدى أو ملتقى بأن هناك سجالات وليس أفكارا لطرح حلول عملية، وكأن أبجديات التسوية غائبة على الأمم المتحدة، التي قد تجد نفسها أمام بازار سياسي يتسابق فيه الحضور لخطف الأضواء، ويصبح الأعلى صوتا هو الأكثر قوة في فرض رؤاه، ويتفوق على من يملكون الحجة والبرهان.

ربما تريد البعثة الأممية في ليبيا التظاهر بالشكل الديمقراطي في حل الأزمة المستعصية، بما يرضي غرور بعض القوى الدولية التي تتشبث بشكل الحريات دون مضمومنها، لكنها سوف ترتكب خطيئة جديدة إذا تعاملت مع مخرجات تونس على أنها روشتة للحل السياسي، لأنها تضحي بالمنجزات التي تحققت على مستوى الاتفاق حول بنود ومتطلبات وقف إطلاق النار، وهو ما يحقق أهداف تركيا وقطر.

أعتقد المجتمع الدولي يعنيه توفير الاستقرار في ليبيا، وتريد بعض قواه تصحيح المواقف السلبية، من هذا المنطلق من الواجب ضبط الدفة، وعدم ترك قيادتها في أيدي عناصر آخر ما يعنيها حل الأزمة، ووقف عمليات الالتفاف التي تقوم بها أنقرة والدوحة ومن يدورون في فلكهما.

هناك فرصة جادة تلوح في الأفق لتسوية الأزمة من المهم عدم تفويتها أو السماح لأي طرف بتخرىبها، خاصة من تنتعش مصالحهم في الظلام، ولا يستطيعون العيش في النور بسلام.