الانتهازية تصنع ضعف وتشتت المكون السياسي السنّي في العراق

المكون السياسي السنّي لم يكن غائبا أو مُغيبا فقط عن المشهد العراقي بل كان جزءا ممن صنع تفاصيله السلبية بحضور نخبة سياسية اتسمت بالانتهازية وتحصيل مكاسب شخصية، ارتدت تهميشا وتفقيرا وإقصاء للطبقة التي تدعي تمثيلها.
المكون الشيعي يُرسخ هيمنته مستفيدا من تصدعات البيت السنّي
غرقت القيادات السنّية في صراع النفوذ فأغرقت السنّة في التهميش
شخصيات سنّية أصبحت مألوفة ومستهلكة اقترنت أسماؤها بالفشل
توقعات بأن تعيد انتخابات 2021 إنتاج نخبة فاشلة موصومة بالفساد
المكون السياسي السنّي لا يغادر متاهة الصراعات على النفوذ

بغداد - يتوجه العراق إلى انتخابات تشريعية مبكرة تلقي فيها الأحزاب الشيعية المهيمنة على الحكم منذ العام 2003 تحت ستار المظلومية بثقلها بينما لا يكاد المكون السنّي يغادر مربع المتفرج والمشارك الأضعف تمثيلا وحضورا على الساحة السياسية وسط انقسامات بفعل تنافس وتزاحم بين الشخصيات السنّية فقط لتحصيل موقع في الخارطة السياسية حتى لو اكتفى هؤلاء بلعب دور مكمل لا مؤثر في مشهد لا يخدم العائلة السنّية العراقية في شيء.

ويبدو دور المكون السياسي السنّي في المشهد العراقي مجرد تجميل لنظام حكم أرسته الولايات المتحدة هيمنت فيه الأحزاب الشيعية على مقاليد الحكم وسلطة القرار، فيما عانى سنّة العراق خلال أكثر من 13 عاما من التهميش والإقصاء ومن الطائفية المقيتة.

ولم يحاول هذا المكون السياسي الذي يتحدث باسم السنّة ويدعي تمثيلهم سياسيا، فرض نفسه بما يُعدّل كفة التوازنات الحزبية والسياسية في مشهد استفادت منه إيران إلى حدّ كبير وجنت ثماره بأن زجت بالموالين لها وقوّت شوكتهم بحيث بدوا أكثر تنظيما وأكثر استحواذا على الدولة وعلى كل مناحي الحياة اليومية للعراقيين.

وفي الوقت الذي استفاد فيه الشيعة من غطاء مظلومية مصطنعة في عهد الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، سوقت لها الأحزاب التي كانت تحتضنها إيران لعقود قبل غزو الولايات المتحدة للعراق، تم تصوير السنّة على أنهم الحاضنة لتلك المظالم المزعومة كون صدام أحد أكبر رموز السنّة من محافظة صلاح الدين ذات الرمزية التاريخية لسنّة العراق والمنطقة.

ولم يكن المكون السياسي السنّي غائبا أو مُغيبا عن المشهد العراقي بل كان جزء من صُنع تفاصيله السلبية من خلال حضور بطبقة سياسية اتسمت بالانتهازية وتحصيل مكاسب شخصية ومنافع ذاتية، ارتدت تهميشا وتفقيرا وإقصاء للطبقة التي يدعون تمثيلها فغابت التنمية وتحسين الخدمات والمرافق الخدماتية في المناطق السنّية التي تحوّلت كرها بفعل الظلم المسلط عليها إلى مرتع للتشدد الديني وحاضنة لتنظيم القاعدة ثمّ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).

وكان ذلك سببا كافيا للميليشيات الشيعية التي تبحث عن ذرائع للاستيلاء على المناطق السنّية، لدخول تلك المناطق والتنكيل بأهلها واستباحة ممتلكاتها وتهجير أهلها وتغيير التركيبة الديمغرافية فيها.

وتقف منطقة جرف الصخر جنوبي العاصمة بغداد التي استولت عليها الميليشيات الشيعية بالكامل وحوّلتها إلى مستعمرة إيرانية تستخدم مركزا لتدريب الميليشيات المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني ولتجميع الأسلحة المهرّبة من إيران وتخزينها، شاهدا يروي تلك التفاصيل المروعة.

وتقف المناطق السنّية أيضا التي شهدت في السنوات الأخيرة حربا ضروسا على تنظيم داعش، شاهدة على ضعف دور المكون السياسي السنّي، فتلك المناطق تعرضت للتدمير ودفع أهلها دفعا للنزوح خارجها وعاشوا مآسي إنسانية في مخيمات النزوح وتركوا يواجهون مصيرهم لوحدهم ولم يكن لهم من سند إلا منظمات الإغاثة الأممية مع شبه غياب لدور الدولة.

وفشل الساسة الذين يدعون تمثيل السنّة بشكل كامل في خدمة قضايا مكوّنهم وفي حمايته والدفاع عن مصالحه، خصوصا في أحلك الظروف وأصعب المراحل.

ولا يبدو أن الانتخابات التشريعية القادمة ستأتي بتغيير مفصلي في المشهد العراقي فقد شكلت فرصة للمنظومة السياسية القائمة لإعادة ترتيب أوراقها وإعادة إنتاج لنفس النظام القائم بطبقته السياسية الفاشلة والفاسدة والتي وضعت العراق على حافة الإفلاس والانفجار الاجتماعي.

ويقوم النظام السياسي في العراق منذ 2005 على محاصصة طائفية حيث يقضي بأن تكون رئاسة البرلمان لشخصية من المكون السنّي العربي ورئاسة الدولة لشخصية من المكون الكردي (رئاسة محدودة الصلاحيات) وأما أهم موقع أي رئاسة الوزراء (تنفيذية بصلاحيات واسعة) فمن نصيب المكون الشيعي.

وفي انتفاضة أكتوبر/تشرين الأول 2019 قتل نحو 600 من المحتجين المطالبين برحيل الطبقة السياسية والمنددين بالنفوذ الإيراني، بنيران قوات الأمن والميليشيات الموالية لإيران وهي الاحتجاجات التي أسقطت حكومة عادل عبدالمهدي لكنها لم تسقط النظام القائم على المحاصصة الطائفية.

ولا يبدو أن الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها والتي أُقرّت بعد سقوط حكومة عبدالمهدي التي خلفتها حكومة مصطفى الكاظمي لتهيئة الظروف القانونية والإجرائية للاستحقاق الانتخابي، ستأتي بالتغيير المأمول الذي يطالب به الحراك العراقي.

والحتمية القائمة والواضحة أيضا أنه لن تتم عملية إعادة ترتيب أوضاع النظام بعيدا عن أعمدته الأساسية التي قام عليها قبل قرابة الـ18 سنة، والمتمثّلة في الأحزاب والشخصيات السياسية والدينية الشيعية.

وفي خضم المشهد الراهن، انطلقت شخصيات وأحزاب سياسية شيعية في حملة واسعة لخوض الاستحقاق الانتخابي المقرر في صيف العام 2021 حتى أن من بينها من بدأ بالفعل يروج لنفسه وبشكل مبكر وعلني لتولي السلطة وأعطى لنفسه أحقية قيادة الحكومة القادمة. وبالطبع الحديث هنا عن الزعيم الشيعي مقتدى الصدر الذي احتكم للشارع مرارا للضغط على الطبقة السياسية والذي صنع لنفسه مجدا واهيا بالوراثة وأعدّ قاعدة انتخابية متينة لجهة تمكينه من السلطة وهو طموح بات معلنا بعد مواقف متقلبة وشديدة التناقض أوجزها في شخصه كواعظ ومصلح ومقاوم للفساد.

وفي المقابل بدت النخبة السنّية المنخرطة في العمل السياسي شبه غائبة عن المشهد الانتخابي الذي تتزاحم عليه النخبة الشيعية.

والمفارقة أن السياسيين السنّة وفي الوقت الذي كان يفترض فيه تشكيل جبهة قوية قادرة على المنافسة، دشنوا حراكا عكسيا لا يخدم قضية السنّة في انتخابات 2021 بل إن هذا الحراك تقريبا كرّس لضرب المكون السنّي من خلال تنافس محموم وصل حدّ محاولات الإلغاء داخل البيت السنّي.

وفيما كان ينتظر أن ترمم الشخصيات السنّية التي لها تجربة سياسية التصدعات في البيت السنّي وتشكيل جبهة موحدة في منافسة التكتلات الشيعية لجهة إحداث توازن في المشهد، تشكلت تحالفات لإسقاط رئيس البرلمان محمد الحلبوسي.

والحلبوسي القيادي السنّي الشاب اعتمد في صعوده السريع على إحدى العوائل السنّية الثرية والتي لها قاعدة جماهيرية في منطقة الأنبار كما اعتمد على تحالفات براغماتية مع قوى شيعية ترغب في احتوائه وضمان بقائه في صفها.

وبات رئيس البرلمان الحالي يثير مخاوف شخصيات سياسية سنّية وجوهها أصبحت مألوفة ومستهلكة سياسيا واقترن ذكرها في الشارع العراقي بالفشل وبالانتهازية السياسية، ما دفعها منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي لإعادة ترتيب أوراقها وتحالفاتها لهدفين أولهما إزاحة الحلبوسي والحفاظ على نفوذها وموقعها ومكاسبها في الخارطة السياسية لما بعد انتخابات 2021.

وتعاظمت مخاوف تلك الشخصيات من القيادي السنّي الشاب الذي سبق قبل توليه رئاسة البرلمان، منصب محافظ الأنبار في أحلك فتراتها بعد نهاية الحرب على داعش في 2017 وما خلّفته من دمار هائل، إلا أنه نجح رغم ذلك في قيادة عملية إعادة إعمار سريعة كان لها تأثيرها الكبير على الدورة الاقتصادية والحياة الاجتماعية وبالنتيجة على الأوضاع الأمنية.

وأنتج حراك داخلي استمر لأسابيع في أوساط الكتل والأحزاب السُنّية، جبهة جديدة تمثّل كتلة سياسية تضم 35 نائبا وشخصية سُنيّة باسم 'الجبهة العراقية' وتم تسمية رئيس مجلس النواب السابق المقرّب من تركيا أسامة النجيفي الذي يترأس جبهة الإنقاذ والتنمية، لقيادة هذه الجبهة.

وتضم الجبهة العراقية النائب أحمد الجبوري عن حزب الجماهير الوطنية والنائب رشيد العزاوي عن الحزب الإسلامي العراقي والنائبين فارس الفارس وطلال الزوبعي عن المشروع العربي ومحمد إقبال عن الكتلة العراقية المستقلة.

ويختزل هذا الحراك السنّي المعاكس حجم التفكك داخل البيت السني ويؤكد مرة أخرى أن النخبة السياسية السنّية شبه المغيبة في المشهد السياسي هي من صنع أيضا مآسي العرب السنّة في العراق.  

ويساهم هذا التفكك في إضعاف قوة ونفوذ المكون السنّي ويجعل من تشكيل جبهة مؤثرة تعيد التوازن للمشهد السياسي العراقي الذي يهيمن عليه الشيعة، أمر صعبا إن لم يكن مستحيلا.  

ولم تفلح الكتل السنّية القائمة والتي تسعى وراء تأمين مصالح ضيقة وشخصية طيلة أكثر من عقد ونصف في حلّ الأزمات المتراكمة في المحافظات التي تمثلها والتي تعمقت بشكل أكبر بعد الحرب على تنظيم داعش بين 2014 و2017 والتي كان للميليشيات الشيعية فيها دور في هزيمة التنظيم المتطرف.

وحروب الإلغاء المعلنة من قبل الجبهة الجديدة التي تشكلت على وقع الخوف من تعاظم شعبية الحلبوسي وثقله السياسي، لم تكن وليدة اللحظة التي صعد فيها القيادي السنّي سريعا، فالقراءة السريعة لخلافات سابقة وصراعات داخل البيت السنّي تؤكد أن الحرب المعلنة لم تكن طارئا ولا استثناء في معركة تأمين النفوذ.

في العام 2016 في ذروة الحرب على تنظيم داعش وفي الوقت الذي كانت المناطق السنّية في أمس الحاجة للمكون السياسي السنّي لإسنادها ودعمها في ما واجهته من مآس، اندلع خلاف حاد بين رئيس البرلمان حينها سليم الجبوري ووزير الدفاع في حكومة حيدر العبادي في تلك الفترة خالد العبيدي انتهى بإزاحة العبيدي من منصبه بتآمر من الجبوري مع قوى وأحزاب شيعية.

وبعد سنتين تقريبا دفع الجبوري ثمن الصراع والتآمر على أبناء المكون السنّي، وهي حروب وصراعات أسست للقطيعة ولصراع لم يهدأ.

ويرى السياسي السني العراقي أحمد الجربا أنّ "التخبط السنّي سيستمر إذا استمر التنافس بين قادة المكون"، معتبرا أن "الصراع السياسي الذي تشهده الساحة السنّية لا يتعلق بالبناء بل بالزعامة"، مؤكّدا أنّ "الزعامة السياسية بالمعنى الأبوي ليست موجودة في الساحة السنية، فكل زعيم يريد سحق الآخر".