الانفصال في سوريا.. التهمة للأكراد والفعل للأتراك

عملية تتريك شاملة للمناطق الواقعة تحت سيطرة القوات التركية شمال سوريا.

أن تزور مدن جرابلس، إعزاز، الباب، وعفرين في شمال سوريا في ظل السيطرة التركية يعني أنه من الممكن أن تكون بحاجة لمترجم تركي – عربي عند تحويل النقود أو زيارة المشفى أو الدخول إلى المدارس وما تسمى المجالس المحلية التي أمست مخافر مدنية وأوكاراً استخباراتية للدولة التركية على الأراضي السورية. كما من الممكن أن تعتقد وللوهلة الأولى بأنك في تركيا وليس في مدن سورية قاومت العثمانيين في زمنٍ ما وهويتها الثقافية والاجتماعية والسياسية متميزة عن ما هو سائد في إزمير وميرسين حيث معقل الشوفينية التركية. التأكيد على أنك سوري في تلك المناطق قد يُعتبر إقحاماً وقحاً وغير منطقياً للهوية السورية، وذلك بعد ثلاثة أعوام فقط من تدنيس الجنود الأتراك للأراضي السورية.

خلال ثماني سنوات من عمر الصراع المستمر في سوريا، حاولت تركيا وبمنتهى اللصوصية البحث عن ثغرات ملائمة للتدخل في سوريا، وغالباً ما كانت تتفرج على النيران التي كانت تشعلها هي بنفسها على الأراضي السورية دون أن تتدخل بشكل مباشر عن طريق قواتها العسكرية. فإدخال عناصر داعش من كافة البلدان عن طريق الحدود إلى سوريا وبإعتراف الإعلام التركي نفسه، ودعم التنظيمات الجهادية والسيطرة على المعارضة بشقيها السياسي والعسكري غالباً ما كانت طُرقاً كافية لتحقيق غايات أنقرة حتى فترة قريبة. إلا إن فشل أدواتها في تحقيق حلم "العثمنة" وكسب المجتمع إلى جانبهم، دفع بالمدرعات والطائرات الحربية التركية إلى التدخل وكسر الأعناق التي رفضت الانحناء لسياساتها، فقتلت وهجرت واختطفت الآلاف وهددت ولا تزال المجتمعات التي حافظت على أمنها ونسيجها الاجتماعي بالتوازي مع هجمات أدواتها (داعش – النصرة – الفصائل المتشددة)، ولعل عفرين كانت المثال الأبرز لتلك الجرائم.

وفي ظل سيناريوهات البحث عن الحجة للتدخل والاحتلال، لجأت تركيا إلى إلصاق صفات شيطانية وماكرة بخصومها الأساسيين، وهم الكرد السوريون، لطالما كانت قضيتهم في المنطقة المشكلة التقليدية التي تًربك وتُزعج تركيا منذ أكثر من قرن، لذا، لجأت إلى اتهامهم بالانفصال لشلّ أي تأثير لهم في الحالة السياسية والعسكرية السورية، ولتمرير المشاريع العثمانية التي لا يخجل أردوغان في البوح بها ليس لأقرب الناس منه بل حتى لأعدائه، ونجح إلى حدّ ما في إقناع فئة سورية ضالة محسوبة على "المعارضة" بتلك الاتهامات، فدفعتها إلى حروب استنزاف لا داعي لها مع الكرد في الوقت الذي كانت تتفق فيه مع أعداء المعارضة الأساسيين روسيا وإيران على تقليص مساحات سيطرتهم مقابل مصالحها التوسعية، فبدأت بتقديم بحلب مقابل الباب، والغوطة مقابل عفرين، لتنفصل الحلقات الأخرى منها، درعا، جنوب ادلب، ومن غير المعلوم بعد ما هو قادم وخاصة أن الحمى التركية مشتعلة هذه الأيام في طرد السوريين من تركيا وإذلالهم في لقمة عيشهم وكرامتهم.

ومع محاولة تركيا ضرب العرب والكرد ببعضهم البعض في معارك كان المنتصر فيها تركيا فقط، ليتسنى لها القفز فوق جثثهم والوصول إلى مآربها، كانت الخطط التركية جاهزة وتنتظر انخراط أكبر للاستخبارات والجيش التركي في الحالة السورية لفرضها بشكل أكبر، فبدأت بالعلم التركي الذي رُفع على المواقع العسكرية بداية وصولاً إلى المدارس والشوارع والمؤسسات الخدمية، وصولاً إلى السيارات العمومية ومطاعم بيع الفلافل، كما قامت بتغيير أسماء المدن كتغيير اسم مدينة الراعي في شمال حلب إلى "جوبان باي" واسم جبل عقيل المعروف إلى "بولانت البيرق"، ناهيك عن تغيير أسماء العشرات من القرى في مناطق الباب وعفرين وإعزاز، وكذلك أسماء الساحات والشوارع والحدائق، ففي عفرين أُطلق تسمية "رجب أردوغان" على ساحة "السراي" وأسماء تركية أخرى على بعض القرى الكردية، وفي إعزاز كانت تسمية "الأمة العثمانية" لحديقة عامة عمرها نحو 100 عام مع علم تركي كبير وكتابات باللغة التركية أكثر صدمة بالنسبة للسوريين.

قامت تركيا بتغيير أسماء المدارس وفرض اللغة التركية بعد حظر الكردية بشكل كامل والعربية في بعض المناطق، وكان لافتاً تسمية المركز الثقافي قرية "مريمين" في عفرين باسم "تنزيلة" والدة الرئيس التركي، كما فرضت على الأهالي تعليم أبنائهم اللغة التركية والاعتماد على المناهج التركية بدلاً عن المناهج السورية، فيما وزعت على الطلبة شهادات تحمل العلم التركي وكتابات باللغة التركية، وافتتحت فروع لجامعاتها ونقاط البريد والمحاكم التركية والمراكز الدينية على الطريقة العثمانية التي تدعو للرئيس التركي وجيشه بالتوسع والمزيد من الاحتلال.

أزالت الاستخبارات التركية أبراج الاتصالات السورية واستبدلتها بالتركية، وفرضت التعامل بالعملة التركية بدلاً عن العملة السورية، كما شكلت هياكل محلية عسكرية واستخباراتية تتخذ من "العمل المدني" كواجهة لها وربطتها بشكل مباشر مع الولايات التركية القريبة كولاية هاتاي – اسكندرون التي عادة ما تفرض على تلك الهياكل والمجالس المحلية إيداع ميزانيتها في البنوك التركي، وكذلك أرشفة أوراقها الرسمية لدى الولاية التركية.

ويقوم ضابط تركي رفيع المستوى على رعاية وتوجيه السياسات والاجراءات التركية في الأراضي السورية، فهو يسكن في مدينة عفرين وسط حراسة مشددة، ويقوم بعقد الاجتماعات الدورية مع الفصائل المسلحة، والشرطة، والمؤسسات الخدمية ومدراء المدارس ومخاتير القرى، حيث عادة ما يقوم ذاك الضابط بنقل تعليمات الاستخبارات التركية إلى تلك الجهات.

يوجد على الأراضي السورية انطلاقاً من جرابلس وصولاً إلى عفرين نحو 700 نقطة عسكرية واستخباراتية – أمنية تركية، تتولى تلك النقاط تنظيم العمليات الاستخباراتية وتوجيهها في باقي الأراضي السورية، كما تقوم بتجنيد السوريين لصالحها وإرسالهم لتنفيذ العمليات الارهابية.

أما الآثار السورية، فلم تتعرض في تاريخها للنهب والتدمير كما هو الحال اليوم في ظل الاحتلال التركي. فأكثر من 50 موقعاً أثرياً سورياً في عفرين وجرابلس وإعزاز تعرض للنهب ونقلت آثارها إلى تركيا، كما تم تدمير العديد من المواقع كموقع عين دارا في عفرين الذي صمد أكثر من ألفي عام قبل أن تدمره الطائرات الحربية التركية في عام 2018.

ربطت تركيا الاقتصاد في تلك المنطقة بعملتها وأسواقها. فمع سرقة زيتون عفرين الذي وصل حتى أسواق أوروبا بقيمة نحو 100 مليون يورو بعد حرمان أصحابه الحقيقيين منه، لم تجد تركيا حرجاً في فرض نوعية المحاصيل التي يجب على المزارع السوري زراعتها في المناطق المحتلة تبعاً لاحتياجات الأتراك وليس السوريين، حيث قامت بشكل فظّ في فرض التسعيرة على محصول القمح ونقلته إلى الصوامع التركية، وكذلك بالنسبة للخضار، حيث تتحجج تركيا بأنها هي من تدفع رواتب الميليشيات التابعة لها من تلك المسروقات.

أما الميليشيات التابعة لها، فهي تعتبر الذراع القاتل لمعاقبة كل من يرفض تلك الانتهاكات، وهي كانت ترفع العلمين، علم الانتداب الفرنسي والعلم التركي فوق مقراتها وكذلك على كتف عناصرها، إلا أنها اكتفت في الفترة الأخيرة بالعلم التركي فقط، كما بالغت في إطلاق تسميات تركية على نفسها كمسمى "أشبال أرطغرل" و"محمد الفاتح" و"السلطان مراد" و"لواء سمرقند" و"السلطان عبدالحميد"، وأطلقت أسماء تركية على دوراتها التدريبية وبعض عملياتها.

ومؤخراً، قامت تركيا ببناء جدار عازل في محيط منطقة عفرين لعزلها وسلخها عن الاراضي السورية، كما قامت ببناء مخافر ومهابط للطيران في المنطقة، وطرد سكانها وإسكان التركمان وعائلات المسلحين التابعين لها بدلاً عنهم، في خطة خبيثة للتغير الديمغرافي وفرض واقع الاحتلال، علماً أن تركيا لا تخشى من نشر خرائط تركية تتضمن مناطق حلب واللاذقية ضمن تلك الخرائط بصفتها أراضي تركية.

عدد الرموز والأعلام التركية وحالات التغيير الديمغرافي وطمس الهوية الثقافية التي تشاهدها في المدن السورية المحتلة من قبل تركيا قد لا تجدها على الأراضي التركية نفسها، وهي تكرس واقع الانفصال التي تريد تركيا فرضه مع مرور الوقت، حيث لا تزال تجربة السوريين في فقدان لواء اسكندرون لصالح تركيا ماثلة في الأذهان، علماً أن ما تقوم به تركيا الآن هو أخطر وأشمل بكثير ما جرى سابقاً أثناء سلخ لواء اسكندرون، وما تم عرضه من انتهاكات وجرائم يعتبر الجزء القليل منها.

يساعد تركيا في تنفيذ خططها بعض السوريين المستفيدين منها، وعلى الرغم من أن تلك الاجراءات لا تستهدف المناطق الكردية فقط، بل حتى مناطق عربية لا أكراد فيها كإعزاز وجرابلس أو حتى ادلب، إلا أنهم عادة ما يتحججون بالصراع الكردي – التركي للدعاية لتركيا في تتريك الشمال السوري والتبرير لها أكثر من تركيا نفسها، وفي الوقت الذي يطالب فيه الأتراك بطرد السوريين الهاربين من الحرب من بلادهم ويطلقون حملات كحملة "أيها السوريون.. أخرجوا من بلادنا"، تدعوا تلك الفئة الضالة والمضللة من ما يسمى "الجيش الوطني السوري" تركيا إلى احتلال المزيد من الأراضي السورية في شرق الفرات(!) وكأنها لم تستفد من تجاربها الفاشلة عندما ربطت مصيرها بالمدرعات التركية في ادلب أو حلب.

على العموم، ما تقوم به تركيا في الشمال السوري من جرائم وانتهاكات بحق الهوية السورية بحاجة إلى المزيد من التوثيق وتقديم الوثائق إلى الجهات الدولية المعنية، ومقاومتها بكافة السبل. فالجشع التركي الذي يختبأ خلف حجة "وجود الكرد" أو "النظام" يلتهم الهويات العربية والسريانية والآشورية قبل الكردية دون رادع، وهو عبارة عن مقدمة لما هو أسوأ، وحجم الاذلال التركي للسوريين بمختلف انتماءاتهم واستخدام المدفعية والطيران لتعزيزه قد يدفع السوريين مجبرين إلى قبول الواقع بكل مساوئه لحين انتهاء الحرب التي طالما استغلتها تركيا لتنفيذ مخططاتها.