الباحثون عن التوتر بين مصر والجزائر

حاولت بعض الجهات تغذية الفتنة بين مصر والجزائر وفشلت.

مضت موجة الغضب على مواقع التواصل الاجتماعي في اتجاه بعيد تماما عن الواقع السياسي. فما حدث من تراشق متبادل بين مصريين وجزائريين مؤخرا يجب أن يتوقف عند كرة القدم وإثارتها ولا يحمل معاني سياسية، ولا داعي لتصيد موقف غير مقصود من هنا أو حركة لا إرادية من هناك واتخاذهما ذريعة للحكم على تصرفات شعب بأكمله.

من انساقوا وراء عواطفهم ومن اعتقدوا أنهم عقلاء وقعوا في فخ التحريض الذي يريده أصحاب النوايا السيئة، وقد تترتب عليه نتائج سلبية في علاقة البلدين. نجح الفريق الجزائري في انتزاع بطولة كأس الأمم الأفريقية من السنغال على أرض مصر لأنه أجاد وقدم عروضا مميزة منحته الحق في التتويج. وهذه حقيقة سوف تظل راسخة وتذهب تعليقات مواقع التواصل إلى الجحيم.

أنست المعركة الوهمية كثيرين جوانب مضيئة على مستوى البطولة. فقد نجحت مصر في عرض وجه حضاري مشرف، اعترفت به دوائر إقليمية ودولية كثيرة وشخصيات رياضية كبيرة. وقدمت صورة ناصعة عن الهدوء والأمن والاستقرار، كفيلة أن تخرس الألسنة التي تنكر ذلك، ما ينعكس لاحقا في شكل مردودات سياسية واقتصادية تضاعف الثقة في حكمة ورشادة الدولة المصرية.

لم يتأثر التنظيم ولم تتغير الإجراءات بخروج المنتخب الوطني مبكرا. وربما كان ذلك دافعا إضافيا للاهتمام والإتقان، والتسامح مع فئة من الجمهور الجزائري أقدمت على تصرفات بعيدة عن اللياقة. وأدركت الحكومة الأهداف التي ينطوي عليها التجاوب مع الإثارة حتى لو كانت مفتعلة، وفوتت الفرصة على أصحابها، وتعاملت مع الأمر بذكاء لعدم النيل من التنظيم.

أسرف البعض على مواقع التواصل الاجتماعي في الحديث عن سلوكيات فردية، وعزفوا على تسخينها عن قصد وبدونه، وعادوا إلى رواسب كروية بغرض تعكير الأجواء، وتجاهلوا أن العلاقات بين مصر والجزائر في أحسن حالاتها، من انسجام وتوافق في عدد من القضايا الحيوية، إلى حرص على التعاون والتنسيق في بعض الملفات الإقليمية. وهناك رغبة متبادلة لتطويرها والحفاظ على المصالح المشتركة للبلدين.

لجأ بعض المتربصين إلى توظيف ذكريات قاتمة لصب الزيت على الغضب الجماهيري. ووجدنا شبابا لم يعاصروا مأساة أم درمان منذ عشرة أعوام يتحدثون كأنها وقعت بالأمس، وتغافلوا عن الظروف التي أدت إليها وتجاوزها بسلام ولم تتأثر العلاقات السياسية بين البلدين. وجرى التعامل معها على أنها مباراة في كرة القدم بكل ما حملته من مظاهر سلبية متعارف عليها عالميا، وتجاوز الحساسيات التي تحكمت في توجهات قطاع عريض من المواطنين، وكانت سببا رئيسيا في بعض التفسيرات الخاطئة.

كشفت التسهيلات التي قدمت للجمهور الجزائري عن جانب مهم في درجة المتانة السياسية. فمصر التي تدقق تماما في كل من يدخلها وعندها نظام أمني صارم تخلت عن هذه القاعدة مؤقتا لأجل عيون الجزائر. وسمحت بزيارة الآلاف من أبنائها ببطاقة الهوية ولم تلتفت لضوابط الحصول على تأشيرات وغيرها من الإجراءات الحاسمة. واستقبلت أسرابا من الطيران العسكري والمدني حملت نحو 20 ألف مشجع. وقدمت كل ما يمكن عمله ليكونوا في قلب استاد القاهرة لحضور المباراة النهائية.

لم ينكر المواطنون والمسئولون في الجزائر الكرم والمزايا، لكن الغبار الذي أثير عقب المباراة النهائية تم توظيفه ووضعه في مكانة غير عادية، لتفويت الفرصة على من يعملون لأجل تأسيس قواعد جديدة في العلاقات الثنائية، لأن الجزائر لم تفز في بطولة رياضية فقط، بل فازت قيادتها بشعبية سياسية جارفة كانت في أمس الحاجة إليها، وفي لحظات تواجه تحديات داخلية متعاظمة، تحتاح فيها إلى هدوء كي تتمكن من عبورها.

من حملوا التطورات دلالات كبيرة يضرون بمصالح البلدين، ففي جميع مباريات الكرة تقع أحداث مؤسفة. وتقف الاشتباكات والتراشقات التي نراها في الدوري المصري أو الجزائري شاهدة على ذلك، وتنتهي غالبيتها بسلام. ولو جرى التوقف عند مظاهرها لأصبحت هذه اللعبة بغيضة. لكن يبدو أن جاذبيتها أصبحت مستمدة من الانفعالات التي تصاحبها.

ليس المقصود تبرير تصرفات خاطئة، أو النصح والعزف والبحث عن تفسيرات إيجابية، فكل واحد يستطيع تحديد مواقفه وتوجهاته وخياراته بسهولة، وعليه تجنب تغيير الحقائق وتصوير الأمر على أنه خلافات جذرية. فما يربط مصر بالجزائر، أو العكس، يفوق الغضب والتقديرات العفوية. وربما تشهد المرحلة المقبلة تطورات ترفع من حرارة العلاقات السياسية.

تثير التوجهات الإيجابية هواجس وغيرة لدى أوساط ترغب في وقف التقدم الذي يقطع الطريق على تصورات تريد أن تبقي الأمل في امكانية تضخم أنصار تيار الإسلام السياسي في منطقة المغرب العربي. وتعد الجزائر واحدة من ركائزه الرئيسية التي فتحت المجال كي ينخرط أتباعه رسميا في العملية السياسية، بما جعله يتمدد في المغرب وتونس، ولا تتورع قياداته عن حلم الهيمنة على مقادير ليبيا.

تستشعر المؤسسة العسكرية في الجزائر جانبا من هذه المخاوف في ظل محنة الحكم التي تواجهها الدولة حاليا. وتسعى للخروج من المأزق بطريقة سلسلة تحافظ على الوحدة والتماسك المجتمعي، وتوقف زحف الجماعات المتشددة التي تعتقد أن الرخاوة السياسية تشجع على التغول، وتفتح الباب لطموح يجعل من الجزائر ركيزة للإسلام السياسي في المنطقة، وربما قاعدة خلفية للحركات المتشددة، إذا أخفقت في سيطرتها على ليبيا.

يكفي هذا الملمح ليجعل مصر قريبة بما يكفي، لأننا نحارب أشباحا من المتطرفين والإرهابيين لم ينكروا رغبتهم في السيطرة على مقاليد المنطقة. وهي الحرب التي نخوضها في الداخل بشرف، وتمكنت الأجهزة الأمنية من قطع دابر هؤلاء. لكن الحلقة لن تكتمل بدون التنسيق الخارجي مع الدول المؤمنة بأن التهديدات والمخاطر القادمة من هذا التيار واحدة، بما يستلزم التكاتف والتلاحم، ولن تسطيع أي دولة تحقيق نجاحات ما لم تتمكن من التنسيق مع من يواجهون المصير ذاته.

حاولت بعض الجهات تغذية الفتنة بين مصر والجزائر وفشلت، لأن عبر الماضي لا تزال ماثلة. كما أن خبرة الحاضر أضافت دروسا جديدة جعلت من الصعوبة الوقوع في هذا النوع من الفخاخ السياسية، حتى ولو كانت مغلفة بمواقف رياضية.