البحث عن حياة صحافية خارج فيسبوك وغوغل

"السوق المريضة" لا تضم صحفنا العربية فقط، بل هي سوق دولية كبرى، وعندما نتعرض لها فإننا نشارك ونحرض على صناعة الأمل عبر الأفكار.
نجح تومسون، برأيي، لأنه يؤمن بأن هناك من يبحث عن الحياة الصحافية خارج نطاق فيسبوك وغوغل

أتعرض إلى نقد مستمر بشأن ما أكتبه عن الميديا، وأُتهم غالبا بعدم عرض مثال عربي في صحافة المحتوى المتميز، في المقابل كل الذين يمارسون هذا النقد -المخلص وفق التقويم المفرط بالتفاؤل- لا يتفقون في الحد الأدنى على مثال إعلامي عربي عن المحتوى المتميز.

سبق وأن كتبت بأنني لا أراقب الصحافة العربية بنظارة سوداء، وما أطمح إليه هو عرض النماذج الغربية أمام القارئ العربي لمنحه فرصة المقارنة. مثلما أحرض على صناعة بيئة عمل ناجحة للصحافة نفسها، فكيف لي أن أنال من الصحافة العربية، وأنا جزء منها!

مع ذلك، النظرة المتشائمة بشأن مستقبل الصحافة لا تقتصر علينا -أيها السادة- تأملوا ما كتبته إميلي بيل مديرة مركز “تاو” للصحافة الرقمية بجامعة كولومبيا، فقد شبهت الصحف بمريض مرهق لا يتوقف عن السعال، وتمادت بمقال كتبته هذا الأسبوع في صحيفة الغارديان، في التوقع المتشائم بقولها إن الصحف تعيش سكرات الموت وتترقب معجزة إنعاش لإنقاذها.

 “السوق المريضة” لا تضم صحفنا العربية فقط، بل هي سوق دولية كبرى، وعندما نتعرض لها فإننا نشارك ونحرض على صناعة الأمل عبر الأفكار، رأس المال ليس بيدنا، إلّا أن هناك من يقابل الأفكار النيرة بالمال لإنقاذ الصحافة.

وفي كل الذي يحدث فإن الصحافة الورقية قادرة على الاستمرار والنجاح، علينا أن نتأمل تجربة فايننشيال تايمز البريطانية ونيويورك تايمز الأميركية. درسان صحافيان يبعثان على الثقة والأمل، من المهم استذكارهما كلما تبادر إلى أذهاننا الإحباط بشأن مستقبل الصحافة.

فالأولى صحيفة محصنة من داء التكنوفوبيا، عندما احتفلت العام الماضي بالوصول إلى المشترك رقم مليون للمرة الأولى في تاريخها منذ 131 عاما.

فايننشيال تايمز تطبع بجدارة المحتوى، لا تكرر نفسها، وكتّابها ليسوا ممن يجترئون الأفكار المعهودة، إنهم يتجددون في كل عمود أو حوار، وهذا سبب كاف يجعل من الصحافة معافاة من طريق السوق المريضة.

بينما لم يتخل القراء الأوفياء عن نيويورك تايمز، حيث تبنّى نفس المشتركين المسنين في النسخة الورقية، الاشتراكات الرقمية على هواتفهم الذكية.

فازدهار نيويورك تايمز يقلل من وطأة الفكرة المتشائمة عن نكبة الصحافة الورقية ومستقبلها في العالم.

هناك بيئة عمل معادية بلا شك من قبل الشركات التكنولوجية الكبرى للصحافة الورقية، يقودها فيسبوك ويوتيوب وغوغل وأبل… فالصحافة هي أول ضحية لنموذج الإعلان الذي يفضل هذه المنصات عليها.

لكن نيويورك تايمز نجت من الهجوم الرقمي وطورت بيئة أعمالها ووجدت التجاوب المذهل من القراء أنفسهم والمستخدمين على موقعها الإلكتروني، وهي اليوم علامة تجارية إخبارية رقمية عالمية.

لذلك انتقل إلى الكتابة فيها صحافيون على درجة من التأثير، واستقطبوا قراءهم معهم. مما جعل صحيفة نيويورك تايمز ذات صلة بجمهور جديد بالكامل.

لم تكتف بذلك بل أصبحت مصدرا في صناعة القصة الصحافية لوسائل إعلام في مختلف دول العالم، يكفي أن نرى أن كبرى وسائل الإعلام أبرمت عقودا مع نيويورك تايمز لشراء قصص المحتوى المتميز.

هناك بقعة مشرقة وسط كآبة السوق المريضة حسب تعبير ماثيو غاراهان في صحيفة فايننشيال تايمز، فلا تزال شهية الجمهور إلى الأخبار منفتحة ولم تنسد. الأخبار صناعة لم تمت لكنها تحتاج إلى إعادة تأهيل وتطوير، وهذا ما يجعلها تحقق مردودا لصنّاع محتواها في عالم تهيمن عليه الإعلانات الرقمية.

واليوم تفتخر هذه الصحيفة بازدهارها في العصر الرقمي كمؤسسة تقدّم مادة عالية الجودة وقوية ماليا، لقد بلغ هدفها الطموح المتمثل في كسب 800 مليون دولار سنويا من خلال الإيرادات الرقمية، وارتفع سعر سهمها إلى أعلى مستوى خلال 15 عاما.

لا شك أن غرفة الأخبار، التي كانت مشغولة للغاية بالاحتفال لأنها توثق تفكك السياسة الأميركية في عصر الرئيس دونالد ترامب، وصلت إلى مستوى تاريخي بوجود 1700 صحافي في أروقتها ومكاتبها الملحقة. الكلام عن “مجزرة محررين” مصطلح غير متداول في مقر هذه الصحيفة في مانهاتن.

فكرة الباب الدوار بين المؤسسات الإعلامية تجسدت في حركة مستمرة تديرها نيويورك تايمز، فمع استمرار تسريح العاملين في وسائل الإعلام أخرى، فتحت نيويورك تايمز أقساما جديدة وعززت مكاتبها بكفاءات تم الاستغناء عنها في صحف أخرى، وصارت تمتلك اليوم أكبر منصة رقمية.

من المفارقات أن هذا الانتعاش الملحوظ في نيويورك تايمز يعود إلى سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب المشوشة، فقد ازدهرت الاشتراكات الرقمية حيث يرى القراء الأوفياء أن دعم المؤسسات الصحافية طريق فعال لمعارضة سياسة البيت الأبيض الهادفة إلى شيطنة الصحافة. بينما تحظى خدماتها المرئية والمسموعة بشعبية كبيرة بين الجمهور الشاب. لنتخيل مثلا فيديو قصير عن الطبخ حظي بمتابعة عشرين مليون مستخدم  خلال يومين، هذه هي الطريقة التي تصنع فيها الصحف بيئة أعمال المستقبل.

نيويورك تايمز ليست مجرد مؤسسة إخبارية اليوم، بل هي مؤسسة رقمية كبرى تعرض الأخبار والآراء والتحليلات والفيديوهات والخدمات الرقمية المتعلقة بشؤون الحياة والأسرة بمنصات محتوى متميز، استطاعت أن تستقطب ملايين المشتركين. لذلك صنعت إيراداتها الداعمة لاستمرار جريدة يومية ورقية.

وأصبح الاشتراك الرقمي مصدرا قويا للدخل، ما يدفعها للتفكير في المستقبل، فقد وصل عدد مشتركيها على الإنترنت إلى خمسة ملايين في الربع الأخير من عام 2019، وتطمح إلى أن يتخطّى عددهم 10 ملايين بحلول 2025.

لذلك تبدو صحيفة نيويورك تايمز قصة نجاح مفعمة بالأمل للصحافة حسب تعبير إميلي بيل. في مقابل مشهد يكشف عن الحالة الكارثية لوسائل الإعلام التقليدية.

عندما قدِمَ مارك تومسون، رئيس هيئة الإذاعة البريطانية السابق عام 2012 إلى نيويورك تايمز، أول ما واجهه الصد، ومن مَن؟ من زملاء صحافيين، كان هذا البريطاني يبعث بينهم سؤالا متعلقا بالتنافس والازدراء، كيف لهذا البريطاني أن يكون على رأس الهرم في صحافتنا الأميركية.

حينها رد على سؤال بشأن “عدم صحافيته” بهدوء ورباطة جأش في أول مؤتمر عقده بعد تسلمه منصب الرئيس التنفيذي لصحيفة نيويورك تايمز، وقال تومسون: على مهلكم لا يمكن أن تنعتوني بغير الصحافي لأني قادم من موقع مدير عام “بي.بي.سي”، فأنا أعتبر نفسي مستمرا في قلب المصهر الصحافي، وقدرتي لم تتراجع على كتابة قصة إخبارية من 1500 كلمة خلال ساعة إذا لزم الأمر.

نجح تومسون، برأيي، لأنه يؤمن بأن هناك من يبحث عن الحياة الصحافية خارج نطاق فيسبوك وغوغل.