
البرلمان الليبي يرمي الكرة في ملعب خصومه بالسعي لحكومة موحدة
طرابلس - دخل مجلس النواب الليبي جولة جديدة من المداولات لتشكيل حكومة وحدة وطنية جديدة، في رد مباشر على المراسيم الأخيرة الصادرة عن المجلس الرئاسي، والتي اعتُبرت تجاوزاً لصلاحيات البرلمان وتحدياً صريحاً لشرعيته. وبينما يُنظر إلى هذه الدعوة على أنها تحرك مهم من أجل كسر الجمود السياسي وتوحيد المؤسسات، إلا أن واقع الانقسام الداخلي وتشابك المصالح الإقليمية والدولية، يجعل منها في الوقت الراهن ورقة ضغط أكثر منها مساراً عملياً قابلاً للتحقق.
ويبدو أن البرلمان، الذي طالما واجه اتهامات من خصومه السياسيين بالتعطيل، يسعى من خلال هذه المبادرة إلى وضع الكرة في ملعب الأطراف التي ترفع شعارات توحيد البلاد دون اتخاذ خطوات ملموسة. وبهذا، يحاول إحراج كل من حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، والمجلس الأعلى للدولة، والمجلس الرئاسي، ويدفعهم إلى الميدان السياسي بدلاً من الاكتفاء بالمواقف الإعلامية والمراوغات القانونية.
ففي وقت تتصاعد فيه المطالب الدولية بإنهاء الانقسام المؤسسي في ليبيا، وتحقيق توافق سياسي يمهد للانتخابات، اختار البرلمان أن يوجه ضربة سياسية مزدوجة: الأولى موجهة نحو خصومه المحليين الرافضين للتغيير، والثانية نحو البعثة الأممية التي تجهد لإعادة إطلاق العملية السياسية وسط عجز واضح عن تغيير المعادلة القائمة على الأرض.
وجاء تحرك البرلمان رداً على مرسوم رئاسي صدر مؤخرًا عن المجلس الرئاسي، يقضي بإنهاء العمل بقانون المحكمة الدستورية الذي أقره البرلمان سابقاً. وقد اعتبر النواب هذا المرسوم تجاوزاً دستورياً ومحاولة لانتزاع صلاحيات السلطة التشريعية، ما فاقم التوترات بين الجهتين.
وفي هذا السياق، صرّح النائب عبدالمنعم العرفي بأن مجلس النواب "يملك القدرة على تشكيل حكومة موحدة رغم حالة الجمود"، مشيراً إلى وجود دعم أممي ودولي لتوحيد المؤسسات وترشيد الإنفاق، خصوصاً مع تصاعد الشكوك الدولية بشأن شرعية حكومة الدبيبة.
لكن العرفي لم يُخفِ مخاوفه من تعقيدات المشهد، متسائلاً "هل ستكون الأطراف المستفيدة من الوضع القائم مستعدة للتجاوب؟ أم أنها ستبحث عن عراقيل جديدة كما جرى مع المراسيم الرئاسية وخطابات حكومة الوحدة الرافضة لتسليم السلطة؟".
ويتجذر الخلاف بين المؤسسات الليبية حول حدود الصلاحيات في المرحلة الانتقالية، إذ يتمسك مجلس النواب بكونه الجهة التشريعية الوحيدة وفق الإعلان الدستوري واتفاق الصخيرات، بينما يتولى المجلس الرئاسي دوراً تنفيذياً ومهام تمثيلية. إلا أن رئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي، يسعى لتوسيع صلاحياته مستغلاً تعثر البرلمان في إنجاز الاستحقاقات الدستورية، خصوصاً الاستفتاء والانتخابات، وهو ما يعتبره النواب تعدياً على اختصاصهم وتهديداً لوحدة البلاد، خاصة بعد إلغاء المجلس الرئاسي لقانون قضائي أقره البرلمان.
وقد تصاعد التوتر بعد استناد المجلس الرئاسي إلى حكم صادر عن المحكمة العليا لإلغاء قانون المحكمة الدستورية، وهو ما رفضه البرلمان معتبراً أن الجهة التي أصدرته لم تعد مختصة بعد إصدار قانون جديد ينقل هذا الاختصاص. كما أصدرت محكمة جنوب بنغازي الابتدائية حكماً إضافياً يشكك في قانونية القرار، مما عمّق الانقسام القضائي إلى جانب الانقسام السياسي.
ويعتقد أن توقيت المراسيم ليس عشوائياً، بل يندرج ضمن مناورة سياسية يقودها المجلس الرئاسي بالتنسيق مع حكومة الدبيبة لمواجهة ضغوط داخلية ودولية بشأن الانتخابات. وتهدف هذه الخطوات إلى إحراج مجلس النواب، وتثبيت حضور المجلس الرئاسي على الساحة، وفرض وقائع قانونية جديدة قبيل اجتماع اللجنة الاستشارية الأممية.
لكن هذه التحركات لم تقرّب البلاد من الانتخابات أو المصالحة، بل زادت من حدة الانقسام المؤسسي، ووسّعت الفجوة بين الشرق والغرب، وفاقمت فقدان الثقة في الأجسام السياسية، في وقت تتزايد فيه الدعوات الدولية لتدخل أممي أكثر حسماً لإعادة ضبط المسار السياسي في ليبيا.
وفي الداخل، تبرز قوى الأمر الواقع، وفي مقدمتها الميليشيات المسلحة في الغرب الليبي، كعقبة رئيسية أمام أي محاولة لتشكيل حكومة وحدة وطنية. فهذه المجموعات، التي ترتبط بعلاقات مصالح مع حكومة الدبيبة، ستخسر كثيراً في حال نجاح هذه المبادرة، مما يجعلها مرشحة لعرقلة أي تحرك سياسي يهدد نفوذها.

ويتقاطع ذلك مع دعم خارجي غير مباشر لهذه الميليشيات من قبل دول إقليمية تجد في استمرار الوضع الراهن أداة للحفاظ على مكاسبها الجيوسياسية دون الدخول في التزامات جديدة.
ويؤكد المحلل السياسي الليبي كامل المرعاش أن خطوة البرلمان تحمل دلالات سياسية قوية لكنها تصطدم بوقائع معقدة. ويقول: "هي محاولة لانتزاع المبادرة السياسية من يد البعثة الأممية والمجلس الرئاسي والدبيبة، وإعادة توجيه المسار السياسي وفقاً لرؤية البرلمان. لكنها تبقى رمزية ما دامت ليبيا أسيرة السلاح والتدخلات".
ويضيف "هناك دول تستفيد من الانقسام الليبي وتدير شبكات نفوذ داخلية، ولن تقبل بسهولة بمشروع وحدة وطنية يُنهي هذا الوضع. لذلك فإن الحكومة الموحدة قد تُولد على الورق، لكن فرضها على الأرض يتطلب توافقات إقليمية لم تنضج بعد".
رغم هذه التحديات، تشير تحركات رئيسة البعثة الأممية هنا تيتيه إلى اهتمام واضح بإنهاء حالة الجمود، ومن المرجح أن تجد المبادرة البرلمانية آذاناً صاغية في المجتمع الدولي، خاصة إذا ما أُرفقت بخطوات عملية مثل التواصل مع بقية الأطراف السياسية وتقديم خارطة طريق واضحة.
لكن الدعم الأممي، وفق مراقبين، سيظل مشروطاً بإشراك جميع الفرقاء الليبيين، وبتجنب فرض حل من طرف واحد، وهو ما يشكك كثيرون في قدرة البرلمان على تحقيقه بمفرده.
وفي المحصلة، تعكس دعوة البرلمان لتشكيل حكومة موحدة رغبة في تغيير قواعد اللعبة السياسية، لكن تنفيذها على الأرض سيصطدم بحائط صلب من المصالح المحلية والإقليمية، والتحالفات المسلحة، والضبابية الدولية.
وحتى ذلك الحين، ستبقى المعركة في ليبيا تدور حول الشرعية والهيمنة، أكثر من كونها صراعاً على برامج الحكم أو مستقبل البلاد، بينما يظل المواطن الليبي الحلقة الأضعف في معادلة لا تزال رهينة التوازنات لا التوافقات.