البريكست يحسم الانتخابات البريطانية

أننا أمام مشهد يعاد فيه تشكيل النظام الدولي بوجوه متعددة، يمكن أن تشكل بريطانيا أحد أقطابه.

يعتبر فوز حزب المحافظين بشكل كاسح في الانتخابات البريطانية المبكرة التي جرت هذا الاسبوع أمراً غير مفاجئ. فقد كان ملف البريكست محور الانتخابات البريطانية بامتياز. وكان طرح أي موضوع آخر هو مجرد محاولة للشغب لا أقل ولا أكثر. لذلك تمكن حزب المحافظين من الفوز بالأغلبية المريحة، إذ أن لديه أجندة واضحة وخطة عملية تضع حداً نهائياً للصداع المزمن الذي ضرب المجتمع البريطاني منذ نجاح الاستفتاء على انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي قبل 3 سنوات، فيما ظهر حزب العمال المنافس بلا رؤية موحدة ولا مبادرة مقنعة بهذا الصدد، مراهناً على الملفات الخدمية عوض التركيز على الملف الذي شكل عبئا كبيراً (اقتصادياً وسياسياً وإعلامياً) على البريطانيين خلال الفترة الماضية. وتؤكد نتيجة الانتخابات على أن التوجه العام لدى الغالبية العظمى من الشعب البريطاني بات داعماً لانفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي بشكل حاسم ونهائي.

في السياق ذاته، يعتبر ملف البريكست ملفاً معقداً تداخلت فيه العديد من العوامل، يتعلق بعضها ابتداء بالنقمة الشعبية التي بلغت ذروتها إبان إجراء الاستفتاء بسبب تزايد موجات الهجرة إلى بريطانيا من دول الاتحاد الأوروبي الفقيرة كرومانيا وبلغاريا ودول البلطيق، إضافة لسياسات التقشف وسوء الخدمات التي يتم تقديمها للمواطنين، لا سيما فيما يتعلق بالطبابة والمواصلات والمساعدات الاجتماعية، وصولاً إلى تضاعف أسعار العقارات بشكل مذهل خلال العقد الأخير، الأمر الذي أفقد كثيرين القدرة على استئجار البيوت فضلاً عن تملكها.

ثمة عوامل أخرى لا تقل أهمية، أشار إليها رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون في كلمة ألقاها في مؤتمر دافوس في سويسرا (21 يناير 2016) أكد فيها "إن بريطانيا دولة كبرى متميزة وصاحبة سيادة، لا يمكن أن تقبل بالتخلي عن عملتها واستبداله باليورو وترفض الاندماج في كيان سياسي آخر يملي عليها ما يجب أن تفعله. وأن بقاء بريطانيا في الاتحاد رهن بمدى خدمة مصالح بريطانيا وتطلعاتها وسياساتها، وأنها تتطلع إلى نجاح تكتل دول اليورو بمعزل عنها وبناء علاقات مميزة معها تخدم الطرفين". وأكد كاميرون حاجة بريطانيا لأوروبا، إنما كشريك، مطالباً إياها بأن تكون منظمة مرنة بما فيه الكفاية لإقامة علاقات متوازنة بين الطرفين.

بهذا نجد أن بريطانيا تهدف عمليا إلى إقامة علاقات وطيدة مع الاتحاد الأوروبي، تكفل لها امتيازات الشريك المفاوض لا العضو الخاضع، مع إعفائها من تحمل تبعة أية سياسات يمكن أن تتبناها أوروبا أو أية أزمات يمكن أن تتعرض لها دول الاتحاد، على نحو ما حصل إبان الأزمة المالية العالمية في عام 2008، التي كشفت هشاشة عدد لا بأس به من اقتصاديات الدول الأعضاء كاليونان وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال فضلاً عن الأعضاء الجدد من شرق أوروبا. كما يتيح لها الانفصال عن الاتحاد الأوروبي إقامة شراكات اقتصادية مهمة، سواء مع الولايات المتحدة وكندا وأستراليا، أو مع الصين وشرق آسيا، فضلاً عن دول كثيرة في أفريقيا وآسيا من غير أن تكون مضطرة لمراجعة الاتحاد الأوروبي أو الاحتكام لقوانينه وآليات العمل فيه.

كذلك فإنه من المعلوم أن بريطانيا هي خامس أكبر اقتصاد في العالم (قبل أن تزيحها الهند إلى الموقع السادس مؤخرا)، ولديها نفوذ سياسي في مناطق شتى من العالم، إضافة إلى كم هائل من الإمكانيات والموارد والخبرات التي راكمتها عبر قرون من الزمن، محلياً ودولياً، ما يميزها عن غيرها من الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. لذلك بات انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي حاجة ملحة لاستعادة قرارها السيادي وفرض نفسها كقطب دولي يلعب في الساحة الدولية بتصوراته الخاصة، لا سيما في ظل تصاعد عدد من الدول على المسرح العالمي، كالصين وروسيا والمانيا. ما يعني أننا أمام مشهد يعاد فيه تشكيل النظام الدولي بوجوه متعددة، يمكن أن تشكل بريطانيا أحد أقطابه، لا مجرد كيان أوروبي تتحكم فيه قوانين الاتحاد وسياساته.

إن فشل رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي في تسويق اتفاق خروجها من الاتحاد الأوروبي واستقالتها لم يمثل نهاية البريكست، إنما عنى عدم القبول بالاتفاق الذي توصلت إليه، بسبب الصراعات الدائرة بين مختلف القوى السياسية بخصوص ماهية الخروج من الاتحاد الأوروبي، بل وميل بعضهم للإطاحة بها سواء من داخل حزب المحافظين أو من طرف حزب العمال الذي تصور إمكانية هزيمة حزب المحافظين. استلم بوريس جونسون رئاسة الحزب والحكومة، في ظل حكومة لا تملك أغلبية مريحة لأخذ قرارات مصيرية كالبريكست، فتعطلت مشاريعه وأخفق كذلك في تمرير الاتفاق الذي توصل إليه مع بروكسيل، رغم تحسين بعض شروطه، لذلك اضطر إلى الإعلان عن انتخابات برلمانية مبكرة، كان الشعب قد بات تواقاً معها إلى التخلص من صُداع البريكست وهمّه، وضرورة إتمام عملية الانفصال عن الاتحاد بأسرع وقت ممكن، ما يفسر اكتساح المحافظين الانتخابات برئاسة جونسون، الذي يجهز حاله للانتقال ببريطانيا إلى مرحلة جديدة مختلفة داخلياً وخارجياً.