أميركا ترامب وسياسات القوة العارية

أربكت جملة السياسات التي تبناها ترامب المشهد الدولي، لكنها منسجمة مع بعضها وتنطلق من زاوية محددة في اتخاذ القرارات وتبني السياسات الدولية.

منذ انتخاب ترامب رئيساً للولايات المتحدة في نوفمبر عام 2016، دخل العالم دوامة من ردود الأفعال جراء تصريحاته وتصرفاته وقراراته، التي تبدو في كثير من الأحيان "مرتجلة". وما زال ترامب، رغم مرور ثلاث سنوات على رئاسته، يمارس السياسة بالكيفية نفسها، وبنفس العقلية التي أدار بها برنامج "ابرنتس" الشهير الذي ينتمي إلى سلسلة برامج تلفزيون الواقع الترفيهية التي تعتمد على الإثارة والتشويق أولاً وأخيراً.

فمنذ تم تقليده زمام الرئاسة الأميركية رسميا في يناير عام 2017 أعلن ترامب الانسحاب من اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ (تمثل 40% من إجمالي الاقتصاد العالمي)، وأعلن في يونيو 2017 انسحاب بلاده من اتفاقية باريس للمناخ. تبع ذلك انسحاب الولايات المتحدة في أكتوبر 2017 من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة "اليونسكو". كما تراجعت عن الاتفاق النووي الإيراني في مايو 2018. وتخلت عن عضويتها في مجلس حقوق الإنسان الدولي في يونيو 2018 على اعتبار أنه منظمة "منافقة وأنانية وتستهزئ بحقوق الإنسان" على نحو ما ورد على لسان مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة نيكي هيلي. كذلك، أعلن الرئيس الأميركي في فبراير 2019 عن البدء بتعليق الولايات المتحدة جميع التزاماتها بمعاهدة الحد من الصواريخ النووية المتوسطة التي تم توقيعها بين الرئيسين الأميركي رونالد ريغان والسوفيتي ميخائيل غورباتشوف قبيل 30 عاماً. إضافة لذلك، أعلن ترامب عن عزمه إلغاء المعاهدة الدولية لتجارة الأسلحة التقليدية الموقعة عام 2013، والتي تقيّد بيع أسلحة لجهات متورطة في جرائم حرب.

أربكت جملة السياسات التي تبناها ترامب المشهد الدولي. حيث أمعنت الولايات المتحدة كما سبق بيانه في تمزيق الاتفاقيات الدولية، وزادت على ذلك قيامها بابتزاز حلفائها قبل خصومها بشكل منفر وعدواني، ولا يكاد يستثنى من ذلك أحد، ابتداء من جيرانها في القارة الأميركية وصولاً لشركائها في أوروبا و"حلفائها" التقليديين في الشرق الأوسط، مروراً بخصومها المفترضين في الصين وروسيا وتركيا وإيران. ما اضطر كثيراً من الدول إلى إعادة حساباتها في مدى إمكانها التعويل على الولايات المتحدة، فضلاً عن الدخول في تحالف أو شراكة معها!

إلا أنه رغم كل الجدل الذي أثاره ترامب بقراراته تلك، وعدم إعجاب الكثيرين بها، سواء داخل الولايات المتحدة أم خارجها، فإن المدقق فيها يجدها منسجمة مع بعضها وتنطلق من زاوية محددة في اتخاذ القرارات وتبني السياسات الدولية، أبرز معالمها الحمائية واستغناء الولايات المتحدة عن العالم وفرض معايير القوة العارية لتحقيق مصالحها متى اقتضى ذلك، أي أنها ليست سياسات عشوائية أو ارتجالية كما قد يبدو عليها، بقدر كونها غير متوقعة وربما غير مألوفة في نظام دولي يخضع لمعايير العولمة والقرية الكونية الذكية والعلاقات المتشابكة والمعقدة بين الدول، ما أربك اللاعبين السياسيين وعسر قراءة المشهد السياسي لدى كثير من المتابعين والمحللين والباحثين. لكن الأهم بتقديري، هو أن الاستمرار بهذا النهج على المدى الطويل سيفرض على القوى الدولية إعادة النظر بعلاقتها مع الولايات المتحدة وبكيفية التعاطي مع القضايا الدولية وبضرورة العمل على إعادة تشكيل النظام الدولي حسب معايير جديدة تحقق شيئاً من التوازن والاستقرار.