البصرة عشق الشعراء واختلاف الساسة!

مهرجان المربد كان مناسبة تحسد البصرة عليه بغداد نفسها، وكان على القائمين على المحافظة أن يكونوا مهيئين لاستقبالها باستعداد يليق بها.
تمثال السياب الذي يغدو في المربد محجا للوفود، غاب عنه اسم الشاعر والبيت الشعري الذي يتغنى به بالعراق
هناك مشاريع خدمية تحققت أو في طريقها إلى التحقق والاكتمال

عندما كانت السيارة التي تقلنا، تشق طريقها في شوارع البصرة القديمة، متوجهة بنا إلى قاعة الموانئ الكبيرة، حيث حفل افتتاح المربد (33) الذي عقد هناك قبل ايام، حضرني قول طريف ومعبّر للعالم البصري يونس بن حبيب النحوي، الذي تتلمذ على يديه سيبويه والفرّاء وغيرهم من أعلام البصرة والعراق. 
كنت قد قرأت له قبل أكثر من ثلاثين سنة، في كتاب بعنوان "شخصيات القدر"  يقول فيه: "ثلاثة والله أشتهي إن أمكن من مناظرتهم يوم القيامة ... آدم (عليه السلام) فأقول له: قد مكّنك الله من الجنة وحرم عليك الشجرة فقصدتها حتى طرحتنا في هذا المكروه. ويوسف (عليه السلام) فأقول له: كنت بمصر، وأبوك يعقوب بكنعان وبينك وبينه عشر مراحل، يبكي عليك حتى ابيضّت عيناه من الحزن، ولم ترسل إليه، إني في عافية وتريحه مما كان فيه من الحزن. وطلحة والزبير، لأقول لهما: إن علي بن أبي طالب بايعتماه بالمدينة وخلعتماه بالعراق، فأي شيء أحدث!".
لقد تخيلت النحوي حيّا ومعنا في السيارة، وقد فارق البصرة دهرا وعاد إليها، كما نحن المدعوون من خارجها، وشاهد أكوام القمامة وخراب الشوارع والفوضى التي شوهت معالم البصرة التي كانت تسمى، ثغر العراق الباسم، والتي تسمى اليوم وقبله، سلة العراق وممولة دولته، بنفطها وغازها وموانئها ونخلها أيضا، وإن بدا اليوم اقل مما كان عليه سابقا. لقد تخيلته وقد أضاف سؤالا أو أسئلة أخرى، ولكن للمسؤولين والقائمين على إدارة البصرة مفاده، أن بينكم أو بين القصور الرسمية التي تسكنونها وبين كل هذا الخراب بضع مئات من الأمتار، فما الذي حال بينكم وبين إصلاح حال الناس والحياة في هذه المدينة التي يعلن الجمال عن نفسه في كل بقعة فيها، حيث شط العرب والأنهار التي تتفرع منه بالعشرات، والنخيل الذي يظلل البيوت والأرض المنبسطة التي لا تحتاج إلى جهد كبير ولا حتى إلى أموال كثيرة تثقل موازنة المحافظة التي يقال إن ما خصص لها منذ العالم 2003 إلى اليوم يكفي لإعادة بنائها من جديد؟ 
نعم، فالبصرة العزيزة على نفس كل عراقي وعربي، لما لها من تاريخ كبير، وحاضر يعكسه حجم الكفاءات الثقافية والعلمية والاجتماعية الكبيرة، تعيش اليوم حال مزرية على مستوى الخدمات والبنية التحتية المخربة، التي جعلتنا نشعر بالحرج أمام الوفود العربية والأجنبية التي حضرت المهرجان، وهم يحملون بالتأكيد صورة للبصرة توازي مكانتها في نفوسهم لما قرأوه وسمعوه عنها وعن أبنائها، قبل أن يقدموا ويروا حالها التي لا تسر.

للموضوعية، لا بد من القول إن هناك مشاريع خدمية تحققت أو في طريقها إلى التحقق والاكتمال، بعثت شيئا من الأمل في نفوسنا، نحن الذين زرناها سابقا، لاسيما في نهر العشار الذي قد يكون مرفقا سياحيا جميلا، إذا ما اكتمل بعد أن كان مكبا للنفايات، يثير منظره القرف، لكن مشكلة البصرة أكبر بكثير مما شاهدناه، لأنها تتمثل باختلاف أحزابها وساستها وصراعاتهم الطويلة التي عطلت الحياة في المحافظة وليس في مدينة البصرة وحدها،  فالمدينة الرياضية لم تكتمل مرافقها حتى الآن، ومعاملها الكبرى كالحديد والصلب والورق والبتروكيمياويات وغيرها متوقفة، وهذا يحتاج إلى تدخل من بغداد لإعادة الحياة إليها وتوظيف الآلاف من الشباب، بدلا من افتراشهم الأرض كباعة للبسطات في بلد يعد من أغنى دول العالم بكثرة ثرواته! 
كان مهرجان المربد مناسبة تحسد البصرة عليه بغداد نفسها، وكان على القائمين على المحافظة أن يكونوا مهيئين لاستقبالها باستعداد يليق بها، لكن الذي وجدناه أن تمثال السياب نفسه الذي يغدو في المربد محجا للوفود، غاب عنه اسم الشاعر والبيت الشعري الذي يتغنى به بالعراق، على الرغم من أعمال الترميم التي طرأت عليه، فهل يجوز هذا يا حكومة البصرة المحلية؟ 
لقد نجح اتحاد الأدباء في البصرة في تنظيم المهرجان، وكان مناسبة رائعة التقى خلالها المئات من الشعراء والمثقفين العرب والعراقيين والأجانب، ممتن تغنوا بالبصرة وبالعراق، وكانت الخدمات ممتازة على كل المستويات، والتنظيم يعكس إرادة ثقافية حقيقية لدى البصريين في تقديم هذه المحافظة بما يليق بها، لكن الصورة الجميلة هذه اختطفتها مناظر البؤس التي ما كان لها أن تحصل لولا غياب الإرادة الحقيقية للبناء، وغياب العقل المدني الذي يعد الأول في سلسلة فقداناتنا الكبيرة ليس في البصرة وحدها بالتأكيد!
شكرا للبصرة التي تبقى الأجمل في أعيننا، لأنها تحملت معنا ثقل العقود المريرة السابقة، وناءت بأحمال تهد الجبال، من حروب وحصار وإهمال، ولأنها ظلت بالرغم من كل هذا، الأم التي ترضعنا الحياة، وإن كانت بها خصاصة!