تركيا والعراق.. ضرورة الشراكة

جوار تاريخي تجاوز الكثير من المشاكل والارهاصات، يجد اليوم فرصة انطلاق جديدة.

علاقة تركيا بالعراق مركّبة، وتحكمها عوامل عدة، تاريخية وثقافية وسياسية، وكل عامل من هذه العوامل يجب قراءته بعين فاحصة لكي لا تتسبب القراءة بما يجعل الحاضر واقعا تحت تأثير الماضي، لأن السياسة الناجحة لأية دولة هي ان تجعل المستقبل هدفها وان لا تستحضر من الماضي الاّ ما يجعل هذا الهدف ممكنا.

تركيا دولة كبرى في المنطقة وهي وفق تصورنا من أبرز الدول في العالم التي لها خبرة في معرفة اللعبة السياسية الدولية وكيفية التعامل مع استحقاقاتها. فالتاريخ يحدثنا عن امبراطورية عثمانية (تركية) كبيرة أفلت بعد ان كان العراق جزءا منها وتركت خلفها بعض المشاكل الحدودية وغيرها، وقد تجاوزها البلدان لاحقا وسارت الأمور بشكل جيد. ولعل تركيا هي البلد الوحيد بين جوار العراق لم تكن لنا معه مشاكل كبيرة ومنذ قيام الدولة العراقية الحديثة مطلع القرن الماضي، الأمر الذي جعل العراق يغفو على وسادة ناعمة منحتنا راحة سياسية وامنية كنّا نريدها ان تكون مع بعض الدول المجاورة الأخرى التي نغصت علينا هذه الغفوة!

وايضا من تركيا يبدأ شريان الحياة في العراق، ونقصد نهري دجلة والفرات. ولدينا في العراق ارتباط ثقافي من شقين، اسلامي وكذلك وقومي من خلال التركمان الذين يمثلون القومية الثالثة في العراق بعد العرب والكرد، فضلا على ان تركيا تمثل بوابة العراق على أوروبا. ولعل قطار بغداد برلين الذي عصفت به مخرجات الحرب العالمية الأولى كان سيربط العراق فعلا بأوروبا منذ قرن من الزمن وأكثر.

تركيا مرّت بتحولات سياسية ومحطات كثيرة، بعضها كان حادا ثقافيا، لكن علاقتها بالعراق ظلت طبيعية ولم تتغير في جوهرها المبني على احترام سيادة العراق وأمنه الذي تراه مغذيا لأمنها القومي، ولذا حرصت على ان يكون هناك تفاهما مستمرا بينها وبين العراق. وتركيا لم تستثمر في أي من القوى التي عارضت الأنظمة السابقة لابتزاز العراق او بقصد ايذائه كما حصل مع غيرها من دول الجوار، وايضا عارضت غزو العراق واحتلاله في العام 2003 وكان موقفها الداعم لوحدة العراق اعطى العراقيين قوة في مواجهة مخطط التقسيم الذي كاد يحصل بعد ان عملت عليه وبقوة بعض القوى الداخلية والخارجية. ويضاف الى كل هذا حجم التبادل التجاري بين البلدين وانبوب النفط العراقي المار بالأراضي التركية وصولا الى موانئها، ما يعني ان علاقة العراق بتركيا يجب ان يضعها صانع القرار السياسي العراقي في مقدمة اهتماماته وان يتعامل مع الملف التركي بوصفه ملف علاقات مصيرية.

تركيا "الأخوانية" وقعت تحت تأثير الحدث الكبير الذي سمي بـ"الربيع العربي" وراودتها احلام في تحقيق بعض المكاسب الجيوسياسية، لكنه وبعد ان ادركت المأزق الذي اخذ هذا الحدث دول المنطقة اليه، انسحبت وراحت تعمل على ترميم سياجها الحدودي بلحاظ استحقاقات الحدث والانزياحات التي تسبب بها وتحسّب تركيا لذلك والعمل على القيام بنشاطات استباقية ربما لم تعجب العرب او تخوفوا من مخرجاتها النهائية، ومنها مطاردتها لحزب العمال الكردستاني (بي كا كا) الذي دفعته امواج اللعبة الدولية الى ارض العراق وربما تم استثماره في لعبة صراع القوى المحلية العراقية. نعم، لقد ترتب على ذلك تدخل تركيا في شمالي العراق تحت هذه الذريعة، وان كانت فعلا ذريعة فعلينا ان نرفعها لنجنب بلدنا مشاكل ومواجهة مع دولة لنا معها علاقات مصيرية تتصل بوحدة بلدنا واقتصاده وأمنه، وهو ما توصل اليه صانع القرار السياسي العراقي اخيرا وبعد جدل طويل، وان عراق اليوم الذي بات آمنا اكثر من اي وقت مضى بعد الاحتلال صار جاذبا ومشجعا للكثير من بلدان العالم للاستثمار فيه وتركيا هي الدولة الأقرب لنا جغرافيا والأنفع لنا على مستويات كثيرة كما اشرنا.

لذا لابد من استراتيجية جديدة للعلاقة مع تركيا تضمن لنا حقوقنا في المياه وغيرها وتعزز علاقتنا بها، لاسيما ان العراق بصدد مشروع استراتيجي عملاق يتمثل بطريق التنمية الذي سيجعل من بلادنا محورا لنشاط تجاري دولي يحسدنا عليه الكثيرون ويصبح أمن العراق مصلحة دولية واقليمية، وتركيا ودول الخليج دخلت هذا المشروع الذي بات حقيقة بعد ان كان مجرد حلم او امنية، وعلينا ان نمسك بهذه اللحظة التاريخية التي هي ثمرة واقع دولي واقليمي مختلف عما كان عليه قبل عقد او عقدين. ولعل ما تم توقيعه من مذكرات تفاهم بين المؤسسات العراقية والتركية خلال زيارة الرئيس اردوغان الاخيرة لبغداد يفتح افقا جديدا لعلاقة مميزة مع بلد كبير يحتاجنا ونحتاجه وان هذا قدرنا وقدرهم ايضا وعلينا جميعا ان نعمل لنجعله قدرا جميلا ومثمرا.