"البلاغة الجديدة" ليست كسرًا لعنق "البلاغة القديمة"

مفهوم البلاغة من المفاهيم التى استحوذت على الاهتمام الكبير شرقًا وغربًا، قديمًا وحديثًا، واشتبكت مع حقول معرفية كثيفة.
البلاغة ملكة العلوم الإنسانية قديمًا وحديثًا
البلاغة الإيجاز في غير عجز، والإطناب في غير خطل

ما زال مطلب تيسير اللغة النقدية مطلبًا ضروريًا، بحيث تتوافر أرضية ثقافية في مجالات النقد للقراء محبي الأدب، يمكن من خلالها زيادة متعتهم وتعاطفهم وتقديرهم للنصوص الأدبية، ورفعة سقيهم للثيمات الموضوعية في رحاب هذه النصوص.
ومفهوم البلاغة (فن الخطاب الجيد) من المفاهيم التى استحوذت على الاهتمام الكبير شرقًا وغربًا، قديمًا وحديثًا، واشتبكت مع حقول معرفية كثيفة، لدرجة أن القارئ المثقف العام إذا قدم لتلك المفاهيم محاولًا التزود منها، وجد أحراشًا كثيفة، وظلالًا من مصطلحات علمية شكلت أغصانًا ملتفّة في غابة نقدية لا يستطيع الولوج إليها إلا الباحث الأريب الماهر. حتى قال عنها الباحث جميل حمداوي مفهوم "إمبراطورية البلاغة" بمعنى تحقيق امتدادات البلاغة، وذكر أنها منفتحة الآن على مجموعة من المعارف والتخصصات"، وأيضًا أنها: "أصبحت مدخلا أساسيًا إلى جميع المجالات العلمية والثقافية والفنية، حيث تداخلت التخصصات العلمية لكنها جميعًا ينطلق من منبع واحد هو البلاغة".
 يقول الفيلسوف الألماني والترجينز: "لقد أصبحت البلاغة ملكة العلوم الإنسانية قديمًا وحديثًا"، بل كان العالم العربي حازم القرطاجني نابهًا في "منهج البلغاء" عندما قال: "وكيف يظن إنسان أن صناعة البلاغة يتأتي تحصيلها في الزمن القريب، وهي البحر الذي لم يصل أحد إلى نهايته مع استنفاذ الأعمار"، لذلك كانت مقاربتي للمفهوم دون المصطلح والتعريف، وللعموم دون التوغل المهلك لمثلي في تفاصيل علمية صاخبة، وفي ظلال تفاعلي مع مطالعة تحاول الإنجاز الثقافي الميسر. 

الأسلوبية العربية المعاصرة يجب أن تكون ذات نزعة توفيقية بين بلاغة قديمة والبلاغة الجديدة

ينطلق معني البلاغة العربية عبر جسر المقولة الشهيرة: "البلاغة الإيجاز في غير عجز، والإطناب في غير خطل"، ومثلها سردية حول سؤال تم توجيهه لابن المقفع: ما البلاغة؟. قال: "هي التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يحسن مثلها". 
ومثل هذا قول صحار العبدي: "البلاغة أن تجيب فلا تبطئ، وتقول فلا تخطئ"، أما عبدالحميد الكاتب فقال: "البلاغة ما فهمته العامة ورضته الخاصة". ويتفق هذا المعني بما يسمي الأسلوب السهل الممتنع. وهذا يتفق مع المفهوم الأصلي حيث "سُميت البلاغة بلاغة لأنها تنهي المعني إلى قلب السامع فيهمه وهي البلاغ أيضًا"، وبعبارة أخرى: "البلاغة لغة من قولهم بلغت الغاية" أي أن العناية بإيصال المعنى كاملًا والحرص على ذلك والعناية بالمتلقي والتبليغ: "بالصورة المقبولة والمعرض الحسن" بتعبير أبو الهلال العسكري.  
ما سبق ينطلق من أفق البلاغة العربية، ولكن هناك بلاغة غربية جادلت ذاتها، وأعادت إنتاج خطابها عبر تحديث مفهوم البلاغة الغربية ذاته لخطابة أرسطو أو ما سُمي "بناء المرافعة"، فكانت القراءة الجديدة للبلاغة القديمة قالوا إنها تتشكل من إجراءات مكونة من: أفكار ثم الموجز أو الديباجة التي تشكل روعة الاستهلال للخطاب، ثم العرض ويشكل "جوهر الخطاب"، و"الحجاج" وهي الأدلة المؤيدة والمضادة، ثم الختام للتأكيد، ثم الصياغة أو العبارات أو الصنعة الأسلوبية بتحويل الأفكار إلي أشكال تعبيرية، ثم استظهار الخطاب بحفظه واسترجاعه، ثم الأداء أو الإلقاء وهو "مسرحة القول" ويعني الإلقاء الحيوي المصاحب بحركات يدوية ونطق معياري سليم. 
إذن لم تعد البلاغة مجرد أسلوب أو صياغة، بل أصبحت "تيار خطابي" زاخر، يمثل مزيجًا من معطيات تيار في الصياغة "البديع" أو العبارات، وتيار آخر يركز على ما يسمي الحجاج "وهو تيار منطقي قائم علي عرض الحجج المؤيدة والمضادة".
ونعود للأسلوب وهو مكون البلاغة القديمة "الصياغة" مطورًا، بمعني أن "الأسلوبية" في السياق التاريخي هي الوريث الشرعي للبلاغة التقليدية عندما - كما وصف عبدالله الغذامي بتصرف - استنفذت تلك البلاغة التقليدية إمكانياتها التعليمية وتحجرت مقاييسها المعيارية وأصبحت آفاقها المستقبلية مسدودة فأعلن موتها، والأسلوبية تعني دلالة على طريقة الكتابة أو "فن الكتابة"، وآخر تحدث عنها أنها اختيار لغوي بين بدائل عدة، إذن هي اختيار سرعان ما يحمل طابع كاتبه ويشي بشخصيته ويشير إلى خواصه، 
ونقدم قصة حقيقية رامزة: أنه من لطيف ذكريات أحمد رامي أنه كان يعرض شعره على حافظ إبراهيم، أن حافظ كان يقول إذا لم تعجبه القصيدة" "دي زي السلام عليكم .. كل واحد يقدر يقولها"، فلما نضجت شاعريته، كان حافظ من أوائل المحتفلين بشعره. وحكاية أخرى عن بيرم التونسي أنه كان لا يحب أن يقلده أو يسير علي أسلوبه أحد، من منطلق أنه لا يوجد مدرسة إبداعية، فكل مبدع أصيل له أسلوبه وحده، أو هو في حقيقته مدرسة ليس لها تلاميذ، وهذا يحيلنا مباشرة للمقولة الأشهر لبوفون "الأسلوب هو الرجل نفسه"، والحقيقة أن هذه هي أسلوبية المؤلف، وهناك أسلوبية للنص، وهي تتصل أكثر بمفهوم البينوية التي تعني ببساطة أن النص مغلق في علاقته مع ذاته، منتجًا لدواله الخاصة بعيدًا عن حياة كاتبة والسياق الذي أنتجه "موت المؤلف"، وتم تخفيفها لاحقًا بمفهوم "البنيوية التوليدية" لجولدمان التي اقتنت مفهوم "رؤية العالم"، وتعني أن النصوص الأدبية بها بنية دلالية ترتبط برؤية العالم والواقع الاجتماعي، وتعبر عن فئة ما ينتمي إليها الكاتب، بالتالي هذا الاتجاه حاول التوفيق بين فكرتي "الفن للفن" و "الفن للحياة"، وأسلوبيات أخري لا مجال لعرضها حتى لا نستغرق في تفريعات كثيرة. 

البلاغة التقليدية تقصد الزاوية الانفعالية الوجدانية للمتلقي
بلاغة الإقناع والإمتاع

والأسلوبية كمنهج تعني دراسة النص الأدبي في أمور عدة منها مختلف تجليات النص الصوتية والمقطعية والدلالية، فهي بالتالي وريث البلاغة "العلم المعياري"، يعني أن البلاغة كانت كما قيل: "تلقين الكاتب أو الخطيب فنون الكلام الجميل، لكي يكون كلامه ساميًا آية في الفصاحة"، بالتالي كانت معيارية أو خارطة طريق للمتأدب والكاتب، وأداة مشروحة للإبداع، ووسيلة للتفنن في الكتابة، أي سيادة الجانب التعليمي لبناء شكلي جمالي للنصوص الإبداعية، لماذا؟ لاحتضان وسائل التأثير في عواطف المتلقي وخيالاته.
أي أن البلاغة التقليدية تقصد الزاوية الانفعالية الوجدانية للمتلقي وإثارتها، أو ما أطلق عليه "الاستمالة الانفعالية"، أو "خطابة تأثير"، أو كما قيل "فن الخطابة القول الذي يطلب التصديق"، لكن اتهمها البعض بأنها "خطابة تضليل" إذا طغت على مضمونها اللامعقولية والمغالطة والاعتباطية، فلنتصور بلاغيًا يدري البيان ويتقن البلاغة المعيارية وخطابة التأثير ثم يقدم أفكارًا غير علمية وغير مدروسة أو أفكارًا اعتباطية خاصة بشطحات فكره وهواه دون غيره. 
لذلك أنتج أرسطو جانبًا آخر للخطابة وهو الجانب العقلاني أو الحجج المنطقية المنظمة بهدف الإقناع أو الحجاج، بالتالي الخطابة أصبحت قسمين: "الجوهر" وهو الحجج بهدف الإقناع العقلي، والقسم الآخر قائمًا على إثارة العاطفة، أي آليات التأثير أو العرض المتقن والمعين والوسيلة لتحقيق القسم الأول، إذن أرسطو قال بتحقيق التعادل بين عنصري (العقل / النفس أو "الوجدان"). 
والبلاغة الغربية الجديدة قائمة على إزاحة الأتربة من فوق مفهوم "أرسطو" وتجليته من جديد. بالتالي انتقلت البلاغة من كونها فقط أداة ناجعة لإكتساب الفصاحة، وكونها تعليمية معيارية إلى بلاغة علمية وصفية كما سبقت الإشارة لبلاغة مشكلة من عنصري (العقل والنفس)، والتفاصيل والتفريعات كثيرة جدًا، لكن نكتفي بإيضاح أن البلاغة الجديدة حجاجية حيث تقوم علي وسيلتي التأثير والإقناع "الحجج"، وأن هذا الإقناع لن يتم إلا إذا تم تهيئة المتلقين واستمالتهم انفعاليًا، وهذا يتم التعبير عنه بتلاثة: اللوجوس "الحجج"، و"الإيتوس" مجموعة القيم الأخلاقية والفضائل التي يحملها الخطيب أو البلاغي، و"الباتوس" وتعني انفعالات المخاطب، وبتعبير موجز تكون البلاغة الجديدة "بلاغة الإقناع والإمتاع"، وعنصر الإمتاع لا يعني أبدًا قتل البلاغة القديمة إلا إذا كانت غير ممتعة وتستحق القتل.
ونأتي لمفهوم "الحجاج" حيث قال عنه "بيرلمان": "إنه مجموعة تقنيات الخطاب التي من شأنها أن تبعث علي إذعان المتلقين للقضايا التي نعرضها عليهم أو تزيد من درجات هذا الإذعان"، فهي بالتالي عملية اتصالية قوامها الحجة المنطقية وغايتها إمتاع الآخر والتأثير في سلوكه، بالتالي يتداخل الحجاج تداخلا شديدا مع مبحث "البلاغة الجديدة" ويتقارب مع الخطاب أكثر من تقاربه مع الجدل. 
ونشير للفارق بين الجدل والحجاج كما ورد بقول باحث مع تصرف كبير، الحجاج يكون حضور المتلقي قويًا وليس فقط استدلالات منطقية محضة كالجدل، بمعني أنه يتم الاعتبار لخصوصية المتلقي ومقامه الاجتماعي والثقافي، وتغيير الحجاج طبقًا لذلك، كما أن الجدل يعمل على فكرة قسر المتلقي، بينما الحجاج لا يضع المتلقي في هذا الموقف حيث ينطلق من محتملات أو مشهورات مختلف عليها، ثم سوق المقدمات ثم الذهاب للنتائج التي يرجو الحجاج أن يسلم بها المتلقي محققا الحوار الإنساني العصري القويم.
وهنا تكون الأهمية لمدارسة البلاغة الجديدة، لمعالجة مسائل علمية تهم حياة الناس وأفعالهم، والوصول لحل أو حقيقة ترضي جميع الأطراف، ووسيلة لتنظيم الحياة الاجتماعية بمنحها وسيلة للتعبير عن الآراء المختلفة "استيعاب جميع الخطابات المتنوعة". يقول أوليرون: "أهم وظيفة ينشدها المبدع من خلال الخطاب الذي يلقيه علي الناس تغيير السلوك وتوجيه الأخلاق". 
وتبقي الإشارة إلى أن البلاغة العربية كانت لها فترة تألق، وطبقًا لرأي أحد الباحثين: "وللعرب القدامي أسلوبية متميزة سبقت الغربية بقرون"، ربما للتطوير بالارتباط بالقرآن الكريم وسؤال الإعجاز، فانتقلت في فترة التألق من الطابع المعياري للاهتمام بوسائل حجاجية لغوية من أجل الدفاع عن القرآن الكريم من مزاعم تسعى للنيل منه. 
وهنا يجب أن تكون الأسلوبية العربية المعاصرة ذات نزعة توفيقية بين بلاغة قديمة والبلاغة الجديدة، كما نشير لقول مهم حول ضرورة "تجديد التراث البلاغي العربي بقراءته بآليات معاصرة كفيلة لتكشف عن ثرائه المتجدد"، بالتالي لا يعني هذا قتل البلاغة العربية الحية القديمة.