رواية الحياة وحياة الرواية في 'نادي الأربعين'

رواية عمرو دنقل تضم خيوطا روائية كثيرة مقدمة من أفق الحياة وهي ذات تفكير نقدي اجتماعي تصف الدراما السوداء وتسرد 'القصص المرعبة في كل مكان'.

حيوات في الرواية:

رواية "نادي الأربعين" للروائي عمرو دنقل تضم خيوطا روائية كثيرة مقدمة من أفق الحياة، فهناك المنحى النفسي بمناقشة أزمة منتصف العمر واستعمالها كجسر عبر من خلاله الروائي لفكرة صناعة الإنسان للمصير، بمعنى أن تلك المحنة النفسية تجعل الإنسان يتوقف لجرد ومراجعة كشف حساب حياته واتخاذ القرارات المؤثرة في حياته، فهى لحظة فارقة ما بعدها ليس مثل ما قبلها، وفي الرواية تقوده أزمة البطل الرئيسة لتغيير جذري، وتقديم مجموعة استقالات من العمل الطوعي العام والعمل التجاري، والسؤال الذى يطرح ذاته: هل كانت عزلة حقيقية أو هروبا من الواقع وإعلان يائس من التغيير؟، وأرى أنها كانت عزلة منتجة، فحازم في عزلته يرقى لدرجات علمية أكاديمية، كما ينشر الفكر من خلال كتاباته المقالية.

أيضا العزلة كانت أقرب لمفهوم "التفويض" فقد حلت محله "المرأة"،"ياسمين" زوجته في مجال الأعمال، "هاله النجار" في المجال العام الطوعي، واستنساخ شخصه الناشط والفاعل في الحياة فى شخصية "سارة" ابنته الكبرى. فحقيقة الأمر أنه لم ينقطع تماما عن الحياة فشجرته أثمرت رغم عزلته الطوعية في صورة تقدير للمرأة والعلم معا، فعزلته أقرب لفهم "النجاة من رحم الفتنة" بتعبير الرواية. فالروائي يستعمل المنحى النفسي حتى يدعو القراء للتوقف وتأمل منجزهم وغايتهم الوجودية والتغيير الجذري إذا استدعى الأمر ذلك.

أيضا تقديم "الزمن النفسي" طبقا لمقولة شهيرة منسوبة إلى أنيشتين: "عندما أجلس مع من أحب لمدة ساعتين، أخالها دقيقةً واحدةً فقط. ولكني عندما أجلس على موقد ساخن جداً لمدة دقيقة أخال أنها ساعتان، هذه هي النسبية"، من خلال الصورة الطريفة لعقارب الساعة وتعبير: "يمضي الوقت ببطء، تمر كل دقيقة بولادة متعثرة قبل أن تسمح بمجئ أخرى".

خيط روائي آخر يتصل بمرآوية الجانب البيئي، من خلال منحى نسخي من الواقع البائس، ولها شواهد كثر حول المشاهد التى تعج بالتلوث السمعي والبصري، والأماكن التي تعج بالعشوائية والفوضي والصراخ، ومشاهد القبح اليومي ومعاناة الطرق، والقيادة المتهورة، واغتيال اللون الأخضر، وعالم الغابة، والشرك اليومي، والنحر السلوكي، والسماجة في الفعل العام، واحتضار الشفافية، وظاهرة التسول المؤلمة. والتناقضات الاجتماعية التى جلبت محنة الشخصية الروائية ومخاصمتها لمجتمعها، بل والهم العروبي: "نحن نعيش في أخطر بقعة في العالم"، فالرواية تأسي على معنى "كل البلاد تقدمت إلا أنا".

وامتد المنحى البيئي النسخي أيضا للعمران فنجد "المبني المتغطرس"، وخلطة الجمالية والقبح في تأريخ المبني الاجتماعي للنادي. وهناك اهتمام بقضية مهمة تعد أحد ظواهر المجتمع المفزعة وهى كما اسميها "مأساة محرقة المرأة الوحيدة"، والتنمر المريض بها، فناقشت الرواية قضية المرأة المعيلة بغض النظر عن دينها "في سلة مهملات الزمن"، أو "منكمشة" حين يختطف زوجها من الحياة، وهذا يفسر تعويض الروائي بتقدير المرأة في مشهد التفويض عند العزلة.

والرواية في هذا الشأن ذات تفكير نقدي اجتماعي، تصف "الدراما السوداء"، وتسرد "القصص المرعبة في كل مكان" بتعبير الرواية، تقول الرواية في وصف مباشر للمأساة: "نحن في سباق مرهق جدا من أجل الفوز بنصف حياة، ونصف سعادة، ونصف أمل". ص 78

وتم تضفير التصوير الفوتوغرافي للمجتمعبلمسات ساخرة مثل تسمية المحلات بمعالم مقدسة تناقصها الأفعال "ص 47"، وتذكرني بمقولة جلال عارف: "يا إلهي كل هؤلاء الحجاج فى المطارات وكل هؤلاء المعتمرين فى الموانئ وكل هؤلاء المصلين فى الشوارع، وكل هذه السرقات فى البلد". وقد تحضر السخرية في وصف خارجي للشخصية مثل علاقة الود بين البنطال والحجاب الحاجز لأحد أعضاء مجلس إدارة النادى.

وخيط روائي أصيل ثالث يتجسد أنها رواية ذات طابع تأملى فلسفي يناقش أسئلة وجودية وتحاول الوصول إلي صياغة أفكار منسجمة، وخلاصة مفادها وجوب القيد المنجي: "لابد من نقطة معتمة تتوقف عندها المعرفة" ص 14 وتفسير موجبات هذا التوجه، وارتباط هذا الخيط بالتفكير الصوفي المصفى، خاصة في ثلث الرواية الأخير.

أيضا المنحى العاطفي، وحضور قيمة "زملوني" الروائية، وهو مشهد إيقاظ "ياسمين" لزوجها المتكرر عبر الزمن في ذكرى الميلاد/ الزواج في الرابع من إبريل،وشاهدها النصي الجميل نموذجا رغم المزاج الآلي في التصوير: "يأتي إليها مفككا، وبنظرة واحدة وقليل من الحروف كانت تلم أجزاءه، وتعيده إلى الشكل الأمثل" ص 17. وفي عبارة تقريرية: "يؤمن بأن الإنسان لا يجنى من هذه الدنيا إلا لحظات السعادة التي يشعر بها مع ذويه". ص 39

وجميع هذه الحيوات صاحبها بطبيعة الحال قبيلة من الشخصيات الروائية المتباينة تؤدي كل منها دورا موظفا في المشهد العمومي خاصة، فقد أحصيت أكثر من 50 شخصية في الرواية، وهذا أمر طبيعى لشخصية تمارس عدة مناشط عامة منوعة.

واللافت للنظر أن مجموع هذه الحيوات جسدتها مفردة مركزية شديدة الحضور في النسيج الروائي وهى مفردة الروح، فتلك الحيوات هي روافد لمصب وحيد هي الروح الإنسانية في أشواقها وحرمانها، في سعادتها وشقائها، في توجسها ويقينها، لذلك يشيع الحقل الدلالى بشكل لافت: كسر الروح / الروح درب مجهول / تناغم الأرواح / هجوم الروح على الروح / استباحة الروح / عمق الروح .... ويمكن رصدها بيسر.تقول الرواية عن الأرواح المهيمنة: "بعض الأرواح عندما تقابلها من المستحيل أن تنجو بتفسك وتخرج بروحك كما كانت قبل أن تراها".  ص 195

حياة الرواية:

الرواية من روايات النتيجة أى تبدأ بالحدث الأخير ثم يتم الارتداد لإزالة الأستار عن القصص الخلفية المفضية والمفسرة  لتلك الخاتمة التى تم ادراجها مبكرا في الرواية، وإعادة ترتيب الزمن الطبيعي الخطي من خلال التقديم والتأخير من سمات التحديث في الرواية، وُمورس هذا الشأن في الرواية بشكل إطارى للرواية ككل، من خلال سرد مشهد يحدث بعد إنتهاء الحدث الرئيس، وهي واقعة إستدعاء "حازم أمين" للنيابة، وخروجه من عزلته بعد واقعة مخاصمته لمجتمعه وقصة عشقه الموؤدة باعتبارها الحدث الروائي الرئيس، ثم تتابع سرد أحداث سنوات عديدة مضت في مسار خطي، كما عادت الرواية لزمن حدث الاستهلال، فهى رواية دائرية، غير مربكة للقارئ حيث لا يتم مطالبته بالانتقال الزمنى كثيرًا، وتأتي الخاتمة بتألق قيمة الوفاء العاصمة من القواصم "قيمة زملوني"، بعد تقديم خلاصة روائية من خلال جمل سريعة تخبر عن مصائر النماذج البشرية وشخوص الرواية.

ويحتوى النسيج السردي إعلانات سردية كثر تخبر عن قصص خلفية مختبئة مفسرة لمشهد الخاتمة المدرجة مبكرًا، رغم انزياح الرواية الزمني،مثال: "وتجاهلت ذكرى المرأة التى دكت حصون زوجها" ص 17، وإعلان سردى آخر مفهوم تماما للقراء حول قوس رحلة الشرودوالإنابة، والتمرد والهدي للشخصية الرئيسية "حازم"، بسرد صلته بالشيخ عمر ملاكه الحارس.

الاستهلال الروائي وتقنية الحلم:

تشرع الرواية في تقديم ذاتها من خلال طقس كفكاوي ملحمي كابوسي يضج بالتمزق والدماء المسفوكة، يضع القارئ على الفور فى معترك عاصف ومؤلم، ويشير لمحنة الوطن: "الوادي المثقل بأحزان ساكنيه" ص 8، وآرها تصلح قصة قصيرة قام عمودها الفقرى حول تلك الشرفات الملهبة للمأساة مثل حلقة تعذيب دامية قديمةللإنسان، ثم تمديد الحالة المأساوية البائسة: "بعد ليل ثقيل كئيب الغسق والسحر، ليل خال من الترانيم والتسابيح والأنغام" ص 9، وهى لا تنتمى في تقديري للنسيج السردي المكون للرواية التي أخذت منحى السرد الواقعى الاجتماعى السهل الممتنع، لذلك هى تعد علامة موازية ممهدة للرواية. وهى بذلك تعد بقعة أرجوانية في النسيج السردي، وتعنى تلك القطع المتألقة ببيانها المكثف وبلاغتها المؤثرة وتقنياتها السحرية في بحر السرد الواقعى.

كما نجد فتنة الروائي بنصه وشغفه بأحدى فقراته خاصة، فيدرجه مرتان، الأولى في تضمين لشاهد مقالي متخيل كتبه "حازم" يسرد أثناء التحقيق معه، ص 24، ومرة ثانية ضمن سياق حوارى قرب نهاية الرواية، والموضع الثاني دقيق من حيث ادراج الرؤية والرؤية المضادة، والمنتمية بذكاء روائي لروح سورة الكهف في مناقشة قضية حكمة القدر، مثلتها مقولة الشيخ السبعيني: "وراء كل حدث حكمة متاحة ابحث عنها قدر ما استطعت، وهناك حكمة غير متاحة لن تصل إليها إلا عندما يكون بصرك حديدا، واحذر، فإن التخبط في نور المعرفة أشد قسوة من التخبط في ظلمة الجهل. لا تطلق العنان لعقلك المحدود. استقم كما أمرت وفكر لكن بقدر". ص 11

الحوار في الرواية:

مهمة الحوار المزدوجة في الرواية: الكشف عن طبائع الشخصيات الروائية تحت مظلة مقولة "تكلم حتى آراك"، والمهمة الثانية: دفم الحدث إلى الأمام وتكثيفه، فالحوار كان طوق نجاة للروائي فى منحى روايته ذات الطابع التأملي في أحدى خيوطها المتعددة.

ورغم محاذير الإغراق في الحوار الممسرح، حيث يؤدي إلى إبطاء عجلة السرد، إضافة إلى غلق أفق توقع القارئ تقريبا في من خلال قصة النتيجة والتداعي أو آلة الزمن السردية –القارئ يعرف مقدما الخاتمة- أيضا الإعلانات السردية المفسرة والتى تقدم الأقواس الحكائية للقارئ الذكي بيسر شديد، فقارئ الرواية يستشعر أن حوارات الرواية من فضائلها، رغم شغلها حيزا ماديا لا يستهان به من الرواية، بداية لتضفير خيوط فكرية وفلسفية ونفسية في أفق تلكالحوارات، نهاية بتماسك اللغة وسلاستها دون تقعر، أو إغراق زخرفي بياني، مرورابالمنحى العرفاني النمير في عبارات مسكوكة تتماس مع النزعة المتأصلة في الوجدان العربي، لأنها طوق نجاة تفطن له الذات العربية في محنتها المستدامة، شاهد نصي: "لديك رب رحيم يحبك ويدعوك إليه باستمرار .. اذهب إليه بكسرك ووجعك ولن يردك خائبا" ص 215، وقد أجرى بيانا على الفكرة عبر صيغة ضراعة فيها عذوية. صفحتان 216 و 217.

ومن عوامل كسر رتابة المشاهد الحوارية وجعلها ممتعة تلك السمة الأسلوبية المشرقة بالسرد ذاته عبر التناص مع النص القرآني الكريم، وتوظيفها بذكاء وبدون افتعال.