البلتاجي: الترجمة البديل الدائم عند تراجع مستوى الإبداع المحلي

لم نعرف شيئًا عن أدباء التشيك والسلوفاك الذين أثروا في تاريخ الآداب العالمية بصورة لا جدال فيها.
رغم ابتذال عبارة "الترجمة هي جسر للتواصل بين الثقافات والأمم" إلا أنها حقيقة
حركة الترجمة في مصر كانت غالبًا تدور في فلك السياسة. فأينما توجهت السياسة دارت بوصلة الثقافة معها

تخصص د. خالد البلتاجي في اللغات السلافية شعبة اللغة التشيكية وحصل على درجتي الماجستير والدكتوراه في اللغة التشيكية وعلومها من كلية الآداب جامعة شارلز في براغ، ومدرج في لائحة المترجمين وخبراء علوم اللغة التشيكية المتميزين على مستوى العالم في موقع الأدب التشيكي التابع لوزارة الثقافة التشيكية، وقد قدم قائمة مهمة من الدراسات والترجمات لعدد كبير من الأعمال الروائية والشعرية والنقدية المترجمة عن التشيكية والسلوفاكية. ويشغل أستاذ مساعد بقسم اللغات السلافية، شعبة اللغة التشيكية، كلية الألسن جامعة عين شمس.
من ترجماته روايات "الخلود" لميلان كونديرا، "امرأة للبيع" أورشولا كوفاليك، "سرادق طائر البطريق.. آباء وأبناء" لإميل هاكل، "فرانز كافكا، الأعمال الكاملة" الجزء الأول والثاني، "السفينة الخامسة" لفيرونيكا كومبانيكوفا، "حماة الوطن" لبترا هولوفا، كتب "سر الأهرام"، لميروسلاف فرنر، "قوة المستضعفين" لفاتسلاف هافل، "أغبياء في السياسة" ليوسف باناش،  مختارات من الشعر السلوفاكي المعاصر، قصص "خلف طاحونة الجبل" لميلو أوربان، و"رجل بقلب صناعي" ليان هروشفسكي، مسرحية "الإنسان الآلي" لكارل تشابك، وغيرها.  

قدم قائمة مهمة من الدراسات والترجمات
المجتمعات العادية تروجها لنفسها بشتي الطرق

وفي هذا الحوار معه نتعرف على رحلته مع اللغات السلافية والعلاقات التي تربط هذه اللغات باللغة العربية، ورؤاه للترجمة وانعكاساتها المختلفة على الثقافة العربية. 
يقول د. خالد البلتاجي "التحقت بالجامعة ودرست اللغة التشيكية في كلية الألسن جامعة عين شمس. كان ذلك في عام 1983 وقت أن كانت التشيك مازالت جزءًا من جمهورية فيدرالية باسم "تشيكوسلوفاكيا". وقتها كان سفر التشيك والسلوفاك إلى خارج تلك الجمهورية واختلاطهم بالعالم محدودًا للغاية وبشروط معينة. لذلك كانت معلوماتنا عنهم وعن لغتهم ضئيلة في أضيق حدودها. بعد التحاقي بقسم اللغات السلافية كانت كل المعلومات تدور حول تشيكوسلوفاكيا التي تعاونت في صفقة سلاح مع الحكومة المصرية في الخمسينيات، وأسفر التعاون العسكري عن نمو في النشاط التعليمي والثقافي، أسفر وقتها عن تأسيس قسم للغة التشيكية في مدرسة الألسن العليا وقتها وقبل ترقية المدرسة العليا إلى كلية لتلتحق بكليات جامعة عين شمس في بداية السبعينيات. 
وقتها ظهر جيل من دارسي اللغة التشيكية الذين لم تكن إسهاماتهم الثقافية كبيرة، ولم يظهر من بينهم مترجمون مصريون لينقلوا إلينا بعضًا من إنتاج هذا المجتمع الثقافي. توجهوا جميعًا، على ما يبدو، إلى خدمات الترجمة المصاحبة للتعاون العسكري أو الصناعي بصفة عامة. 
ويضيف البلتاجي "لم تسمح تلك الأوضاع بخلق علاقة متبادلة بين اللغة العربية واللغة التشكية، في المجال الثقافي خاصة إلا نادرًا. إذا نظرنا إلى الجانب الآخر نجد أن المستشرقين التشيك والسلوفاك قاموا بحركة حثيثة في الترجمة إلى التشيكية والسلوفاكية من الأدب العربي، خاصة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. فترجموا أعمالًا لأدباء مصريين مثل رواية  "الأرض" لعبدالرحمن الشرقاوي، و"القاهرة الجديدة" لنجيب محفوظ، و"الأيام" لطه حسين، وغيرهم. لقد أثر ارتباط دراسات علوم اللغة والأدب التشيكي بالسياسة في مصر سلبًا على تاريخ نشاط الترجمة من التشيكية في مصر. فقد أُغلق قسم اللغة التشيكية مع توجه سفينة السياسة المصرية نحو الغرب في السبعينيات، قبل أن يعاد فتحه في بداية الثمانينيات بنفس الكلية والجامعة.
ويؤكد البلتاجي أن تأثير السياسة في تلك الفترة طوى صفحة كان يمكن أن تكون نواة سجل ثقافي حافل يفيد الحياة الثقافية المصرية إلى درجة كبيرة. وخلقت حالة من عدم التوازن في علاقة الثقافة العربية بالثقافة التشيكية والسلوفاكية. وصار ما يعرفونه عنا أكثر بكثر مما نعرفه عنهم. لم تصل إلينا من أخبارهم سوى صفقات السلاح ومحطات الكهرباء التي بنوها في مصر ومنتجات الكريستال التشيكية وعدة الحرفيين الجيدة، وسيارات سكودا القديمة .. الخ. 
لم نعرف شيئًا عن أدباء التشيك والسلوفاك الذين أثروا في تاريخ الآداب العالمية بصورة لا جدال فيها مثل فاتسلاف هافل الأديب، وياروسلاف سايفرت، الحاصل على جائزة نوبل في الآداب، وميلان كونديرا، الأديب الشهير، وكارل تشابك صاحب أشهر مسرحية في العالم بعنوان "الإنسان الآلي"، وبوجينا نيمتسوفا، أيقونة الأدب التشيكي، وحتى فرانز كافكا نفسه الذي قدم إلى القارئ العربي كأديب ألماني على خلاف الحقيقة.   

لم تكن الترجمة يومًا دعوة لذوبان الآخر في الآخر، بل جسرًا يؤكد أن الثراء يكمن في الاختلاف، وعلينا أن نؤكد هذه الحقيقة التي تعد منطلقًا لاحترام الهوية، واعتبار الاختلاف فضيلة تثري البشرية وتسهم في تقدمها.

ورأى البلتاجي أن الحركة الأدبية في بلاد شرق أوروبا دائمًا ما كانت جزءًا من تطور الأدب الأوروبي الغربي الذي تقصده، وشريكة له في التطور أو جزء من حركة التطور في الاتجاهات والمدارس الغربية. الأمثلة بالطبع كثيرة، وهو أمر بديهي نظرًا للقرب الجغرافي والاتصال والتواصل التاريخي الذي يربط المجتمعات الأوروبية ثقافيا واجتماعيًّا. 
ربما حالت الأوضاع السياسية وما يرتبط بها من أيديولوجيات، لوقت قصير للغاية، دون انتشار بعض الأفكار والآراء في مكان، لكن فقط ظاهريًا، أمًّا فعليًا، فقد كانت الأفكار تنتشر وتتواصل بلا توقف. تأثير الأدباء الروس الكبار مثلًا على الآداب العالمية خير مثال. تأثير فرانس كافكا، ودور ميلان كونديرا في الأدب العالمي. الحركة السوريالية التي انطلقت من بلاد التشيك. دور التشيك في تطور الموسيقى العالمية من خلال مبدعيها أمثال بيدرخ سميتانا، وليوش يناتشك.      
وكشف البلتاجي أن حركة الترجمة، في مصر تحديدًا، كانت غالبًا تدور في فلك السياسة. فأينما توجهت السياسة دارت بوصلة الثقافة معها. فمثلًا نجد أن أزهى عصور الترجمة من الروسية بدأت في الخمسينيات من القرن الماضي التي شهدت ظهور ترجمات رائعة لأمهات الأدب الروسي، وعلى رأسها الأعمال الكاملة لدوستيفسكي وتولستوي. قام بهذا العمل الكبير الأديب السوري المعروف سامي الدروبي الذي يعد أشهر من ترجم الأدب الروسي، رغم عدم درايته باللغة الروسية؛ إذ كان يترجم عن الفرنسية. لكنها في النهاية محاولات تتسم بالفردية وتفتقر إلى المنهجية، باستثناء محاولات قليلة قامت بها مؤسسات علمية، تُعنى بتدريس السلافية. نذكر منها إسهامات أساتذة كلية الألسن بجامعة عين شمس، وقسم اللغة الروسية بجامعة بغداد وكذلك برنامج اللغة الروسية بجامعة الملك سعود. 
هذا في الوقت الذي تضمنت مكتبة الأدب العالمي التي أصدرها الاتحاد السوفيتي السابق أكثر من 200 مجلد تعريفي بالأدب العربي، وتُرجمت نصوص أدبية لكتاب عرب، منهم نجيب محفوظ وجبران خليل جبران ومحمود درويش وعبدالرحمن الخميسي ويوسف السباعي ويوسف إدريس.
وأكد البلتاجي أنه رغم ابتذال عبارة "الترجمة هي جسر للتواصل بين الثقافات والأمم" إلا أنها حقيقة. بدون الترجمة لا يمكن أن تتواصل الأفراد ولا الثقافات. والتواصل هنا في ظني، لا يعني مجرد الالتقاء، لكن التفاهم، احترام الاختلاف، والانفتاح على الآخر. فلديك بالتأكيد ما تقدمه له دون أن تفقد ما لديك، بل تثريه بالمعرفة، وتصقله بالاحترام المتبادل. لم تكن الترجمة يومًا دعوة لذوبان الآخر في الآخر، بل جسرًا يؤكد أن الثراء يكمن في الاختلاف، وعلينا أن نؤكد هذه الحقيقة التي تعد منطلقًا لاحترام الهوية، واعتبار الاختلاف فضيلة تثري البشرية وتسهم في تقدمها. 

محاولات تتسم بالفردية
محاولات قليلة قامت بها مؤسسات علمية

وأشار البلتاجي إلى أن ما يواجه حركة الترجمة في مصر والعالم العربي هو انعدام الوعي بأهمية التواصل مع الآخر، والانكفاء على الذات. تمجيد الذات واعتبار الآخر إما عدو متربص أو قوي يفرض سطوته بقوة المال أو غيره، أظن أن هذه أبرز تحديات التفاهم والتواصل من خلال حركة الترجمة. 
أنا أرى أن ما ذكرته لا ينم إلا عن انعدام الثقة بالذات، رغم ما نملكه. المجتمعات العادية تروجها لنفسها بشتي الطرق، وعلى رأسها الثقافية. فنحن نجد أن كل دول الأمم الأوروبية تقريبًا (28 دولة في الاتحاد الأوروبي وعدد السكان حوالي 500 مليون نسمة) لديها أجهزة بميزانيات كبيرة للترويج لنفسها من خلال ترجمة آدابها الى اللغات الأخرى، بينما لا يوجد في أي دولة من دول العالم العربي (الذي يتكون من 22 دولة وحوالي 400 مليون مواطن) مؤسسة واحدة تفعل نفس الشيء. 
أما بخصوص المترجم، في عاملنا العربي خاصة، فهو لا يختلف كثيرًا عن أي سباك أو كهربائي أو ميكانيكي سيارات. المترجم عندنا أجير، يتم التفاوض معه كما تتفاوض مع أي مهني يصلح لك حنفية في مطبخك. الفارق الوحيد هو أنه يعتبر نفسه مبدعًا، بينما أنت تعتبره أجيرًا يعمل بالقطعة. ينتهي دوره بتسليم النص للناشر، ويفقد عندها أي حقوق فكرية، نتيجة غياب مؤسسات أو نقابات تعني بحقوقه وواجباته. طرق العلاج غالبًا واضحة، ولا تحتاج سوى الإرادة. وأظن أن مجتمعاتنا لا تملكها نظرًا لاختلافها مع أولويات النظم الحاكمة.
وختم البلتاجي بأن الترجمة ربما هي البديل الدائم والمستنفر لتراجع مستوى الإبداع المحلي. يلجأ إليه القارئ وحتى الناشر كلما استشعر نقصًا في المنتج المحلي. وأظن أيضًا أن كثيرا من دور النشر العربية تلجأ الى الترجمة لتعويض التراجع في أزمة الثقافة العامة التي تسأل عنها. أعرف شخصيا من ناشرين أن ما ينشروه من إنتاج ثقافي محلي لا يتعدى نسبة عشرة في المئة مما يعرض عليهم أعمال.