البناء الزمني وتنوع الخطاب الروائي في رواية 'حتما سوف يأتي'

الكاتبة شاهيناز الفقي توظّف تقنيات سردية مختلفة مثل الاستقدام والاسترجاع الزمني لتقديم شخصية تعيش بين الحنين للماضي والخوف من المستقبل، في رواية تجمع بين البناء السردي المتشابك والرسائل العميقة.
أمينة الزغبي
القاهرة

يُعد الزمن أحد مكونات البناء السردي، وأكثرها التصاقًا بجنس الرواية، ففي مساره تتحقق تحولات الشخصيات التي تدفع بعجلة السرد إلى الأمام، ومما لا شك فيه أن المبدع بوصفه المتحكِّم في هذا الزمن، تلح عليه القاعدة الفنية بالتلاعب الزمني الذي أصبح تقنية من التقنيات الشائعة في الرواية المعاصرة، فينتج عنه ظهور المفارقة السردية، التي تدل على كل أشكال الاختلاف بين ترتيب زمن القصة، وزمن الخطاب.

ينبني مفهوم الزمن في النقد البنيوي عمومًا، وعند جيرار جينيت خصوصًا، على منطق سردي دقيق وإجرائي، يقوم من خلاله الراوي بعملية هدم لزمن قائم، وإعادة بنائه وفق حركة زمنية تقوم على ترتيب زمني محكوم بإيقاع زمني خاص.

والقاري لرواية "حتما سوف يأتي" للأديبة المبدعة شاهيناز الفقي، سيدرك مدى قدرة الكاتبة على التلاعب بالزمن من خلال متنها السردي، لتضع المتلقي أمام أزمنه متعددة في روايتها، بدءًا من العتبة الأولى للرواية ألا وهي العنوان "حتما سوف يأتي" حيث تبدو هنا الحتمية وهي تأكيد ودلالة على فعل الشيء، واليقين من تحقيقه، أما لفظة "سوف" فهي دلالة على المستقبل، إذن فالعنوان يضع المتلقي أمام مقولة مفادها، أن هناك شيئًا ما سوف يأتي بالضرورة، وبالحتمية، وباليقين القاطع، وهذا يضعنا أمام استشراف للمستقبل، أي استخدام تقنية زمنية يطلق عليها "الاستقدام الزمني" وهي المنحى الزمني الأول الذي اتخذته الكاتبة مُدخلًا لروايتها.

وحينما ندلف إلى المتن السردي للرواية، نجد أن الكاتبة اتكأت في تشكيل بنيتها السردية على زمنين متوازيين؛ الزمن الأول هو "الاسترجاع الزمني"، وهو عكس الاستقدام والاستشراف الذي حدث في العنوان، والاسترجاع الزمني هنا استخدمته الكاتبة في تذكر الشخصية الرئيسة في الرواية "عشم" لكل ما حدث معه في الماضي على هيئه فقرات في الفصول المختلفة للرواية؛ فنجده دائما في حاله نستالوجيا وحنين للماضي الذي عاشه مسبقًا. يتذكر عشم حياته الماضية مع والدته فرحانة، وزوجته نوارة، وحبيبته سلوان، وابنته أمنيه، وعلاقاته النسائية، وبعض الذكريات مع الأصدقاء، وما كان يحدث بينهما في اللقاءات المختلفة منذ أيام الصبا حتى الشباب، وتفرق كل منهم بعد ذلك في طريق.. كذلك يتذكر في حنينه للماضي ما كان يفعله معه شيخ القرية عبدالعليم، وذكرياته الأليمة معه، هذا الرجل الكفيف الذي كان يعنفه ويقرص أذنه ويتذكر كيف كانت ردة فعل والدته فرحانة تجاه هذا الشيخ، وتهديدها له بمنع بقية أولادها من الذهاب إلى كُتَّابه؛ فيخاف من قطع رزقه وفقد سبعة من الأطفال.

ذكريات وحنين للماضي رصدتها الكاتبة من خلال البنية السردية، ساعدت المتلقي على استقبال الخطاب السردي بصورة تجعل الأحداث تتجسَّد أمامه كمشاهد سينمائية متحركة بتقنية الفلاش باك.

 بعد ذلك نجد أن هناك زمنًا آخر وهو الزمن الكرونولوجي، الذي استخدمته الكاتبة في التعبير عما يدور بين عشم وبين أصدقاء الشات على جهاز الكمبيوتر عبر النت، حينما كان يتسمَّع أحاديثهم بشكلٍ يومي، ويتابع أخبارهم، وهو يتحسس مصيره الذي ينتظره في المستقبل، والذي عبرت عنه الكاتبة في العنوان "حتما سوف يأتي" وهو إصابته بالعمى وفقدان البصر كليًّا؛ حيث يجلس عشم ليسمع من هؤلاء السابقين عليه في مصابه، أصدقاء العالم الافتراضي، والفضاء الأزرق، يسمع منهم معاناتهم اليومية أو تعايشهم مع هذا الابتلاء؛ لخوفه الشديد من الإصابة التي حتما سوف تأتي إليه، لكنه لا يريد أن يستسلم لهذا القدر؛ لذلك هو إنسان بقدر ما ينتظر من بلاء كبير وعظيم؛ إلا إنه مليء بالأمل.. لديه أمل في أن يحيا حياته بطريقه طبيعية جدا.. بدليل أننا نجد عشم يتخيل أنه قد اُصيب بالفعل بعدم الرؤية؛ فيتعامل مع زوجته نوارة خلال معاشرته لها وهو مغمض العينين، يستخدم حاستي الشم واللمس، ويفعل ذلك بنجاح؛ فيشعر براحه نفسية كبيرة، خاصة أنه شخصية شهوانية، متعددة العلاقات كما اتضح ذلك من خلال الخطاب السردي في الروية.

تستعرض الكاتبة هذه التقنيات الزمنية متكِئة علي عدد كبير جدًا من الشخصيات، وبالرغم من هذه الشخصيات العديدة في الرواية؛ فإن القارئ لا يشعر أمامها بالملل، بل يسعى لمعرفه الكثير عنها، فكثيرًا ما تطالعنا الكاتبة على لسان الراوي المشارك بشخصية جديدة حتى وإن كنا في منتصف الرواية مثل شخصية "تهاني" إحدي عشيقات "عشم" التي ظهرت في الفصل الخامس عشر، والذي يمكن أن نطلق عليه "زير نساء" العصر من كثرة علاقاته النسائية، فنجد في كل حنين للذكريات وجلسة مع نفسه في عالم النستالوجيا الذي يعيش فيه؛ نجده يظهر لنا شخصيه جديدة، ويقص للقارئ كيف كانت علاقته بها، وكيف كانت بين يديه وهو يكتب لها الشعر، ويسمعها إياه، منهم من كانت تهتم، ومنهم من كانت لا تعبأ بما يقول مثل شخصية تهاني، التي كانت بعد أن تستمع إليه تطلب منه أن يناولها طبق المخلل وهما على طاوله العشاء.

والغريب في شخصية عشم أنه بالرغم من عشقِه للنساء، وتعدد علاقاته؛ إلا أنه صنع بنفسه فجوة كبيرة بينه وبين زوجته نوارة التي أخلصت له حتى وفاتها، بل وفاجأته بجمع أشعاره، وطبعها في ديوان شعري، قامت باستلامه من دار النشر بعد وفاتها صديقتها الوفية "شروق".

نحن أمام شخصية تحمل بداخلها الكثير من التناقضات والأضداد، شخصية تقف على الحافة بين عالمين، عالم المبصرين، وعالم فاقدي البصر؛ لذلك تضاربت بداخلها المشاعر، أصبح عشم يُظهر عكس ما يبطن، يُظهر القوة، وهو هاش وضعيف من الداخل، وذلك لخوفه من الابتلاء الذي ينتظره.

الرواية مليئة بالرسائل المُضمرة، التي ترسلها الكاتبة للمتلقي فيما يسمي بـ "ما وراء الكتابة"، رسائل تبعث في النفس الطمأنينة تارة، والخوف تارة أخري، وذلك ما يتضح للقارئ من خلال خطابها السردي الذي جاء محملًا بالكثير من العبارات الجميلة أيضًا مثل ما أرسلته للمتلقي عبر حديث القبطان البحري مع الفتاة عبر الشات (صــ 66) حيث يذكر لها مقولة شهيرة للزعيم نيلسون مانديلا حيث يقول: "أنا لا أخسر أبدًا، إما أن أربح أو أتعلم". وهي عبارة تستحق الوقوف أمامها طويلًا وتأملها، بل والتعلم منها.