التطبيع 'سلام الشجعان' لتخليص الشرق الأوسط من الاضطرابات

جماعات الإسلام السياسي والتيارات الشعبوية تخوّن التطبيع وتصنفه من المحاذير دون أن تدرك أهدافه الرامية لإرساء السلام، مستثمرة ذلك في رفع شعارات الحميّة والمتاجرة بالقضية الفلسطينية لتلافي تفككها وانهيارها وإنقاذ شعبيتها المتآكلة.
جماعات الإسلام السياسي سببت الانقسام في دول عاشت الربيع العربي

تونس - أثارت اتفاقيات التطبيع الممضاة مؤخرا بين إسرائيل ودول عربية جدلا واسعا بين مؤيد ورافض ومثلت مادة دسمة اشتغلت عليها جماعات الإسلام السياسي والتيارات الشعبوية التي لم تدرك أسسها وأهدافها الرامية لإرساء السلام في المنطقة واستغلت ذلك لتوجيه انتقاداتها لوحدة الصف الخليجي خصوصا والعربي عموما.

واستثمرت جماعات الإسلام السياسي التي تشترك مع الجماعات المتشددة الناشطة في الأقطار العربية في عقيدة واحدة ترفض الديمقراطية والتعايش السلمي وتسعى لفرض حكم استبدادي سلطوي، قطار التطبيع لرفع شعارات الحمية والدفاع عن القضية الفلسطينية وتوظيفها لإنقاذ شعبيتها المتآكلة وجبر انقسامها وفي محاولة لإعادة التموقع في ظل انهيارها وتفككها في أكثر من بلد.

ويرى محللون أن حالة الانقسام والاضطرابات السياسية التي تعانيها عدة دول عربية تمر بمرحلة مخاض على غرار ليبيا وسوريا ولبنان والعراق واليمن وبدرجة أقل في تونس ومصر وغيرها، سببها تيارات الإسلام السياسي والجماعات المتشددة التي تهدف إلى ضرب مشروع إرساء الديمقراطية في البلدان.

كل هذه الصراعات والأزمات المتناثرة التي تعانيها عدة مناطق عربية إلى جانب اتفاقيات التطبيع وتفاعلات المجتمع العربي معها، مثلت محور لقاء صحفي أجرته صحيفة 'العرب اللندنية' واسعة الانتشار مع الباحث المغربي سعيد ناشيد.

لم يخف الباحث المغربي إدراكه للواقع الذي تمر به بعض الدول العربية، مشيرا إلى أن حالة التغيير واجبة ولا مناص منها إذا أرادت هذه البلدان أن تركب قطار النهوض.

إسرائيل حقيقة واقعية

انطلاقا من الوضع الراهن وإشكالية التطبيع التي طرحت على بعض الدول العربية وباتت أمرا واقعا بالنسبة لها، أجاب ناشيد عن  كيفية فهم هذه الظاهرة وهل هي ملزمة أم طوعية بالنسبة إلى الأقطار التي انخرطت فيها؟ وإذا كانت ملزمة ما هي تداعياتها وارتداداتها مستقبلا على طبيعة العلاقة بين الدول العربية، وهل ستقود إلى تباعد أكبر أم أن الرهان على تجاوز تلك الفورة من التخوين التي ينفخ فيها الإخوان المسلمون مضمون؟.. بأن إسرائيل باتت أمرا واقعا الآن، وإنكار ذلك لن يغيّر من الأمر شيئا، والواقع لا يرتفع كما صرح الفقهاء القدماء أنفسهم.

ويرى ناشيد أن العودة إلى خيار الحرب "العربية الإسرائيلية" لم يعد ممكنا، ومن يدّعي عكس ذلك فهو يكذب أو يزايد، قائلا "حتى تجار الأسلحة أنفسهم يدركون أن لا وجود لأي حرب بوسعها أن تحل القضية الفلسطينية، أما أسطورة 'الممانعة' فهي مجرد قناع لأنظمة شمولية وأحزاب تسلطية تتاجر بفلسطين والقدس ووحدة العرب ووحدة المسلمين، وما شابه ذلك من شعارات شعبوية تتغنّى بالتحرير وترفض ترسيخ الاستبداد، على منوال أحزاب البعث وولاية الفقيه".

وأكد أنه بالرغم من وجود يمين يهودي متطرف في إسرائيل، إلا أن الحقيقة المؤكدة هي كسب السلطات الإسرائيلية لرهان الحداثة والديمقراطية والبحث العلمي والإنتاج الفني وسط محيط لا يزال غارقا في البداوة.

وعن السردية المسماة بـ'الصراع العربي الإسرائيلي' وصف بأنها تكشف عن حقيقة إضافية، فبعد كل تصعيد جديد لا تحصد فلسطين سوى المزيد من الخسارة، من حرب 1948 إلى حرب 1967 إلى صواريخ صدام حسين، إلى صواريخ القسام، إلى الآن. والآن تعيش القضية الفلسطينية أسوأ مراحلها، حيث خسرت تعاطف الرأي العام العالمي، بل خسرت تعاطف الرأي العام العربي نفسه مقارنة بسنوات الستينات والسبعينات من القرن العشرين".

وأضاف "لذلك لا أتردد في اعتبار التطبيع بمثابة اختبار لا مفر منه، اختبار يجب أن نخوضه على طريقة سلام الشجعان، ويجب أن يكون الهدف الأولي هو تخليص الشرق الأوسط من حالة الخوف الشامل، إذ ليس هناك ما هو أسوأ من الخوف.. علما وأن المتطرفين من كل الديانات والمجتمعات يستثمرون الخوف ويعملون على تغذيته لأجل تعطيل النفس العاقلة".

ويرى الباحث المغربي أن الخاسر الأكبر في حروب الخوف والتطرف هو التيارات العقلانية والحداثية والإنسانية أينما كان المعسكر الذي تنتمي إليه؛ لذلك يمثل التطبيع فرصة للعودة إلى الوضع الطبيعي الذي لا غنى عنه، وبعد ذلك سيكون هناك متسع للكلام في التفاصيل.

وعن موقف حزب العدالة والتنمية الحاكم بالمغرب الذي كان رافضا إلى وقت قريب دخول المغرب في هذه الموجة من التطبيع، قال ناشيد إن "حزب العدالة والتنمية، شأنه شأن سائر فصائل الإسلام السياسي، لا يملك أي رؤية لأي حل في أي مسألة من المسائل. إنه مجرد حالة انفعالية، مزاجية، وشعاراتية".

وأضاف "لذلك حين يصل أقطاب الإسلام السياسي إلى مواقع المسؤولية فإنهم يضعون الدولة أمام مآلين، إما أن يتحكموا في كل مفاصلها، وإما تكون الدولة العميقة قوية بما يكفي لكي تتحكم في مزاجهم".

وتابع "غير أنهم يتمتعون في كل الأحوال بقدرة هائلة على تبرير كل شيء، تبرير القضية ونقيضها في الآن نفسه، ولديهم لأجل ذلك رصيد هائل من الحيل الفقهية والذرائع السياسية وقصص الأولين".

التطبيع مع إسرائيل بات أمرا واقعا
التطبيع مع إسرائيل بات أمرا واقعا

قضية التطبيع

وقاد الحديث مع الباحث المغربي إلى مسألة أخرى لا تقل جدلا عن قضية التطبيع تمر بها الدول العربية، والممثلة في تجربة الربيع العربي التي أثبتت فشلها، بما يعنيه ذلك من وهم الانتقال الديمقراطي والمصالحة مع الأنظمة السابقة، وغيرها من الانتكاسات التي انتهت إليها هذه البلدان بعد عشر سنوات من المخاض.

وعن وضعية الإسلاميين الذين دفعت بهم ثورات الربيع العربي إلى الواجهة للحكم، أشار الباحث المغربي في علوم الأديان إلى أنهم أثبتوا فشلا ذريعا وبدل التركيز على النهوض بمشروع الدولة الوطنية سعوا إلى تعميق سياسة المحاور والاصطفافات.

ويرى أن ما كان يسمّى بـ"الربيع العربي" لم يشارك الإسلاميون في إطلاق شرارته، فقد غابوا عن ثورة الياسمين، مما جعل صحافيا فرنسيا يكتب مقالا بعنوان "أيها الإسلاميون أين خبأتم الإسلاميين"؟، ولم يظهروا إلا وقت الإعداد للانتخابات حين عاد الغنوشي إلى تونس على إيقاع "طلع البدر علينا"، وفي مصر تردد الإخوان المسلمون طويلا قبل الالتحاق بالاعتصام الكبير بميدان التحرير، ولم يلتحقوا رسميا إلا بعد أن أيقنوا أن موازين القوى لم تعد لصالح حسني مبارك.

وفي سوريا لم تظهر أولى التنظيمات الإسلامية إلا بعد مرور أزيد من نصف عام عن بداية الحراك، وقد كانت جماعة الإخوان المسلمين في بادئ الأمر تكتفي بتخزين الأسلحة استعدادا للمعركة المفصلية التي لم تأت، وقد لا تأتي أبدا، غير أن مخازن أسلحتهم وقعت بين أيادي التنظيمات الأشد تطرفا، قبل أن يتحول الأمر كله إلى مجرد فتنة بين "الإخوان الأعداء" تأكل اليابس والأخضر.

سعيد ناشيد: حالة التغيير واجبة ولا مناص منها إذا أرادت هذه البلدان أن تركب قطار النهوض
سعيد ناشيد: حالة التغيير واجبة ولا مناص منها إذا أرادت هذه البلدان أن تركب قطار النهوض

التجربة الفاشلة للإسلاميين

اعتبر ناشيد أن المعضلة تكمن في أن خطاب الحركات الإسلاموية يعاني من إعاقتين؛ أولها أنه يعتمد على المفاهيم القدامية التي تعود إلى عصر التوسعات الإمبراطورية، مفاهيم تهدد المجتمعات التي تتبناها ولا تجد مستبدا يمسكها بالقبضة الحديدية، ومفاهيم من قبيل "دار الحرب" و"دار الإسلام" و"الولاء" و"البراء" و"الفرقة الناجية" و"الجماعة" و"الطاعة" و"العورة" و"الجزية" و"الغنيمة" و"الاحتراب" و"التدافع" و"اللواء".. وغيرها.

أما الإعاقة الثانية فتتمثل في كونه يؤجج المشاعر السلبية التي تدمر قدرة الإنسان على النمو والفرح والإبداع وتعيق بالتالي إمكانية بناء الحضارة، وتلك المشاعر كثيرة من قبيل الخوف الكراهية، الغضب، الغيرة، الحزن، والسخط وغيرها.

ويخلص في ردّه على هذا السؤال إلى أنه باستحضار المفاهيم القدامية والمشاعر السلبية نستطيع أن نفهم الخصائص الأساسية للشخصية الإسلاموية؛ تحالفاتها قصيرة الأمد، مواقفها المتقلبة، دور الضحية، إذا خاصمت فجّرت أو انفجرت..

أما عن التجربة الفاشلة لحكم الإسلاميين فلا يفوت أي مراقب للوضع العربي أن يمرّ على ما عاشته مصر أثناء تجربة الإخوان المسلمين وبعدها، فسألت "العرب" الباحث المغربي عن رأيه في تجربة الإخوان في مصر، وهل تسير مصر في الاتجاه الصحيح أم أنه كان على النظام الحالي أن يوازن في مقاربته الأمنية بين مناخ الحريات وضبط التوازنات السياسية؟

فأجاب قائلا "من يعرف حجم الأسلحة الثقيلة التي تم تخزينها في سيناء إبان حكم الإخوان المسلمين، يدرك أن المسألة كانت مرتبطة بمخطط لأجل السيطرة المطلقة على مفاصل الدولة، فلا يجب أن ننسى ما سبق أن قاله خيرت الشاطر، "جئنا لكي نحكم مصر خمسمئة عام".

وقدم ناشيد البراهين لتفسير مقاربته على حكم الإخوان بأن "مصطلح غزوة الصناديق الذي استعمله الإخوان وحلفاؤهم في تلك الأوقات، يؤكد أن الدولة كانت هدفا لغزوة كبرى بكل ما تعنيه الكلمة من معنى"، ويستدل على ذلك بالتأكيد على أن "المفاهيم ليست مجرد أدوات محايدة للتواصل أو تبليغ الأفكار، بل وراءها استراتيجيات وبرامج وخلفيات وأجندة. ما يعني أننا يجب أن نأخذ المفاهيم على محمل الجد".

ويرى المفكر المغربي أن "التحدي الآن هو العمل على إنعاش الاقتصاد المصري والذي تعرضت أعمدته الثلاثة (الفن، السياحة، والنيل) لضربات قاسية خلال مرحلة حكم الإخوان".

حين يصل أقطاب الإسلام السياسي إلى مواقع المسؤولية فإنهم يضعون الدولة أمام مآلين إما أن يتحكمو في كل مفاصلها أو يتتسبون في اضطرابها بسبب الصراع مع الدولة العميقة

وفي تعليقه على تيّار الإسلام السياسي الباحث عن موطئ قدم في أكثر من دولة عربية، على غرار ليبيا التي لا ينفك هؤلاء يواصلون العبث بمقدراتها بمساعدة تركية مكشوفة وسط انقسام حاد للتوافق بين الفرقاء الليبيين دوليا وقطريا ومحليا، أوضح ناشيد أن جماعة الإخوان المسلمين تعاملت مع التدخل التركي في ليبيا بالمنطق نفسه الذي تعاملت فيه مع التدخل التركي في شمال سوريا، حيث كان لسان حالها يقول "الاحتلال مثل الصدقة في الأقربين أولى".

ولتفسير رؤيته للحل في ليبيا يرى الباحث المغربي أنه بلا شك فإن الخلاف الخليجي القطري كان له أثر كبير على تأخير الحل في ليبيا، وهو الوضع الذي نأمل أن ينتهي قريبا بفعل تعاون دول الخليج ومصر والدول المغاربية.

ويخلص الباحث المغربي في رد على سؤال لـ"العرب" حول الدافع المشترك الذي يحرك الجماعات الإرهابية الناشطة في المغرب العربي وهو ضرب التجارب الديمقراطية في هذه الدول في مقتل، بأن ذلك مردّه الضعف الحاصل في التنسيق بين الدول. وبيّن أنه في الوقت الذي تمثل فيه منطقة الصحراء الكبرى في أفريقيا اليوم بؤرة عالمية جديدة لإعادة انتشار القاعدة وداعش وأخواتهما، فإن الخلاف بين المغرب والجزائر، وضعف التنسيق مع إسبانيا التي تحتل سبتة ومليلية وجزر الخالدات المقابلة لسواحل الصحراء المغربية، كل ذلك يصب في صالح مخططات التنظيمات المتطرفة داخل منطقة الصحراء الكبرى، وهي المنطقة التي تمتد من الصحراء المغربية وموريتانيا إلى ليبيا عبر مالي والنيجر وتشاد وغيرها.

وعلق بقوله "لذلك يعتبر الانتصار العسكري والدبلوماسي الذي أحرزه المغرب مؤخرا لصالح وحدته الوطنية، بما في ذلك الاعتراف الأميركي بمغربية الصحراء، وقيام العديد من الدول العربية والأفريقية بفتح قنصليات في إقليم الصحراء المغربية، بمثابة خطوة أساسية نحو تعزيز سيطرة الدول الوطنية على صحاريها، استباقا لاستراتيجيات الإرهاب العالمي. وهذا هو المطلوب اليوم".