الإيمان كقوة تحويلية: قراءة في جوهر الالتزام الديني
لم يكن الإيمان مجرد طقس روحي يؤدى في الخفاء، أو حوارا فرديا بين الإنسان وربه، بل كان ولا يزال قوة قادرة على نحت ملامح الحضارات، وتحريك الضمير، وإعادة تشكيل البنى الاجتماعية.
ففي قلب الصراع بين القيم والمصالح، يظل الإيمان هو البوصلة التي تحدد شرعية الأفكار، وتكشف زيف الممارسات التي تتنكر لجوهر الدين. هكذا أراده القرآن حين جعل حقوق الإنسان امتدادا لحقوق الخالق، في معادلة ترفض أن تكون أخلاق القوة بديلا عن قوة الأخلاق.
اذ لا ينحصر دور الخطاب الديني في ترتيل النصوص، بل في تفعيلها على أرض الواقع. انظر إلى الآية: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ}، كيف تحولت كلمة "المستضعفين" وهم الفئة المهمشة تاريخيا، إلى محور المعركة الأخلاقية.
هنا يتحول الإيمان من شعار إلى خطة عمل. فالدفاع عن المظلوم – مسلما كان أم غير مسلم – ليس تفضيلا أخلاقيا، بل شرطا لاستمرار الحياة ذاتها، لقد فهم الأوائل أن الإيمان الحقيقي ليس طول السجود والركوع، بل القدرة على تحويل النص الى حركة تنجز العدالة وتحمي المختلف.
لذا لم يخلد التاريخ الإسلامي اولئك الذين اختبأوا وراء طقوس البر الفردي، بل أولئك الذين حولوا "لا إله إلا الله" إلى مشروع لتفكيك أنظمة الظلم. فالعدل ليس فضيلة شخصية، بل عقدا اجتماعيا. والتكافل ليس شعارا، بل سلاحا في وجه الاستبداد الاقتصادي. هكذا يصير الإيمان حركة تزحزح أوثان الاستبداد، والطبقية، والانفصام الأخلاقي.
ما الذي نراه اليوم؟ نحن نرى بشكل واضح أن الخطاب الديني يرزح تحت وطأة "انشطار المعنى"، حين تحول الالتزام إلى أرشيف للشعارات، بينما يغيب الميثاق الروحي والموقف المسؤول. الإشكال اذا ليس في زيادة عدد المتعبدين، بل في عجز الإيمان عن التحول إلى "قوة ضغط" تعيد هيكلة المواقع.
خذ مثلا موقع علماء الدين، وفق الرؤية القرآنية العالم ليس حارس النصوص، بل هو مهندس الحياة، يكسر جوع المهمشين، ويحرر إنسانية المستلب. ومثلا موقع القضاة في الاسلام، فالقاضي العادل ليس الذي يحفظ النصوص ويردد القوانين، وانما هو الواعي بأن العدل كالماء أصل لكل نبض في جسد الحضارة.
استذكر في هذه الاثناء الحديث النبوي: "لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم وكثرة الحج والمعروف وطنطنتهم بالليل، ولكن انظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة"، وهو يكشف أن الإسلام اسس منذ البداية لمواقع الصلاح، ورفض أن يكون الإيمان غطاء للفساد والظلم، أو أن تتحول الطقوس إلى مسكنات أخلاقية تخدر الضمير.
فالمؤمن الحقيقي لا يورط نفسه في مصالحات مع الفساد، ولا يرضى أن تكون الطقوس "بنجا" يخدر جراح الضعفاء. ومقاصد الشريعة ليست نصوصا معلقة في الهواء، بل شرطا لصلاح الأرض قبل السماء. فما قيمة التدين الذي لا يثور على نظام يسرق خبز الأرامل؟ وما قيمة القداسة التي تخرس أمام ظلم الضعفاء؟
باختصار شديد؛ ينشغل المسلمون في ايجاد ايمان يصلح القلب، بينما المطلوب ايمان يصلح العالم، اصلاح القلوب هو مجرد الخطوة الأولى، والا ما قيمة مؤمن يكتفي بالبكاء ليلا وهو يردد"رب اغفر لي" بينما أخوه في الانسانية يبكي صارخا "رب أنقذني"؟