التعصب بوصفه افرازا عولميّا

إنهيار النموذج الاشتراكي قاد العالم إلى نزعة أنانية أوصلتنا إلى ما نحن فيه.

يوم السبت الماضي 10-11-2018 اقامت مؤسسة "عمار" الدولية، بالتعاون مع مؤسسات ومنظمات عراقية، مؤتمرا تحت عنوان "مناهضة التعصب وترسيخ قيم المواطنة والتسامح"، وقد وجهت لنا دعوة لحضور فعالياته. وبعيدا عن الكلمات والقراءات التي تضمنها المؤتمر، وقريبا منها، توقفت عند عبارة قالها احد الاساتذة اثناء تقديمه فقرات المنهاج. ان العنف والتعصب بات اليوم مشكلة عالمية. وانقل هنا بالمعنى وليس بالنص.

يتذكر اغلب ابناء الاجيال السابقة، أي ممن بلغوا من العمر الخمسين فما فوق وحتى الاقل بقليل، كيف ان من سمات الانسان المتحضر ان يكون مدافعا عن حقوق الشعوب المضطهدة، وكيف ان الاشتراكية، بوصفها وسيلة للعدالة الاجتماعية، كانت تحظى بتقبّل كبير، مثلما كان يحظى رموزها بمختلف اشكالهم باحترام اكبر، وان هذه النزعة الانسانية العميقة لم يخلقها او يصنعها منظرو الاشتراكية وحدهم، بل هي فطرة انسانية تسربت الى معظم كتابات الفلاسفة والمفكرين، وصولا الى رموز الاشتراكية الكبار المعروفين ممن ترجموها على ارض الواقع وباتت ثقافة سياسية تقوم على مبدأ التكافل الانساني العالمي، وليس التكافل الاجتماعي في حدود الدولة الواحدة فقط. ولم تأت هذه الفكرة او تتصّير كردة فعل على ما كانت تقوم به الدول القوية ضد الشعوب الضعيفة، بل هي حاجة انسانية اصيلة سكنت، ومنذ القدم، دواخل الانسان الذي لا خيار له في العيش الآمن والسعيد من دون اخيه الانسان، وان تنظيم هذه العلاقة يبقى من مهمة ساسة يحملون عقولا نيرة وقلوبا بيضاء. وتجلى هذا، فعلا، بما سعى اليه التقدميون بمختلف توجهاتهم، سواء الاشتراكية او غيرها.

لقد مثل انهيار المعسكر الاشتراكي بداية لفصل جديد، ليس في العلاقات السياسية بين الدول، بل في العلاقات بين ابناء البلد الواحد، لاسيما بعد ان تم تسفيه الفكر الاشتراكي من خلال النقد اللئيم والخبيث لبعض الاجراءات التي قامت بها بعض الانظمة الاشتراكية، وتحديدا الشيوعية، التي بالغت في ممارساتها القسرية من اجل التطبيق الآلي لمقولاتها. فجاءت النتائج معاكسة واعطت الذريعة، ليس لضرب الشيوعية والاشتراكية بشكل عام، وانما لضرب قيم التكافل الدولي ومن ثم الاجتماعي داخل الدول نفسها، وعملت على اشاعة النزعات الاستحواذية والاستئثار، فسادت وبشكل لافت شعارات مثقلة بالانانية مثل "بلدي اولا"، ومن ثم صرنا نسمع شعارات تقول "محافظتي اولا!" كمعطى لتلك النزعات التي باتت ثقافة سياسية لها رموزها ومريدوها، حتى وصلنا الى المطالبة باستقلال بعض الاقاليم او المحافظات داخل الدول نفسها للانفراد بثرواتها اذا ما كانت غنية.

لقد كان من حصاد هذه الثقافة السياسية اشاعة الفقر وتسليع الطب والتربح على حساب حياة الانسان ولقمة عيشه. وبذلك وجدنا انفسنا امام ثقافة تعصب وعنف من نوع جديد، اجتاحت العالم، للاسف، بعد ان ارتدت ثوبا حضاريا، فتحولت التعددية الحزبية في الدول المتخلفة والمتقدمة على حد سواء الى وسيلة لتسرب ثقافة كراهية الاخر الى الشارع، وغدت في الغالب تعدديات دينية وطائفية وعنصرية.

نجزم ان الهجرة المستمرة لابناء الدول الفقيرة الى اوروبا وغيرها هي نتاج سياسة التعصب وغياب مبدأ التكافل الدولي النسبي، الذي عاشه العالم لعقود في القرن الماضي. فزيادة مساحة الفقر افقدت الاغلبية من الناس الامل بحياة كريمة. لذلك تراهم يفضلون الموت المحتمل في البحر المتوسط على حياة يعيشونها كالأموات.

قد لا يعرف الكثيرون، ان احصائيات قبل نحو عقدين، تقول ان هناك اكثر من ملياري انسان باتوا على حافة المجاعة، كمعطى لاقتصاد السوق والاستثمارات التي صارت بديلا لمشاريع التنمية المستدامة. وبذلك فقدت الانسانية احد ابرز اسباب التسامح والتلاقي بين الشعوب.

شباب اليوم، وتحديدا من ابناء الدول الفقيرة، اصبحوا في الغالب اشبه بالتائهين فكريا. فلا الواقع يشبع رغباتهم ويمنحهم الفرصة للتعبير عن تطلعاتهم، ولا يتلقون ثقافة انسانية كالسابق، حيث كانت هناك مشاغل ثقافية رصينة وميديات ملتزمة.

نعم.. عالم اليوم قلّ فيه التسامح، وزاد فيه التعصب، وغابت عنه الكثير من القيم الانسانية النبيلة، بعد ان استحوذت عليه ثقافة احادية قاسية عرفت كيف تسوق نفسها باسم التعددية والديمقراطية والانتخابات لتحصد الشعوب كل هذا الخراب الاخلاقي المروع.