التعليم في العراق.. الامتحانات ام المناهج؟

لا يمكن حشر التلميذ في مناهج تعليمية أعدت لعصر غير هذا العصر.

كنا صغارا حفاة متجمعين عند جرف الشط اعلى قريتنا المتاخمة للأهوار، نقرا استعدادا للامتحانات التي باتت على الابواب. من بين ما كنا نقراه كتاب الجغرافية، وفيه مادة بدت لنا مشوقة.. مساكن اليابان. تعلو المادة صورة بالاسود والابيض لبيت مبني بطريقة تقاوم الزلازل، او هذا ما عرفناه من المتن، أي ان واضع المنهج اراد ان يطلعنا على طبيعة حياة شعب اجنبي بعيد، في سياق ثقافة عامة مطلوبة يجب ان يتسلح بها التلميذ منذ الصغر لكي يؤهل علميا وانسانيا ايضا.

يحضر هذا المشهد القديم في ذهني باستمرار بعد ان صارت جميع بلدان العالم تأتي الينا ببيوتها وعاداتها وتقاليدها، وكذلك بسياستها واحداثها وحوادثها، حيث اصبح البث الفضائي يمسح الارض كل يوم ويأتينا بالجديد من اخبار البشر والحجر. اذن اختفت الصورة القديمة لليابان ومساكنهم التي وضعت في المنهج المدرسي، قبل عقود من الزمن، وصار بالامكان مشاهدة اليابان بكامل بهائها الحضاري اليوم، وباحدث طرق التصوير واجملها، مع تعليقات باللغة العربية، لتزيد المشاهد غنى معرفيا ومتعة. بمعنى ان الهدف المتوخى من درس الجغرافيا حققته تقنيات التواصل المتعددة، من ستلايت وانترنت وغيرها، وان تثقيف التلميذ من خلال هذه الوسائل الحديثة بات سهلا جدا ويحقق الهدف المنشود بسرعة.

لكن يبقى السؤال، هل كل تلميذ يحب ان يطلع على جغرافية العالم؟ الجواب، كلا بالتأكيد، مثلما ليس كل تلميذ يحب ان يعرف الفيزياء والرياضيات، مقابل من يحب هذه المواد ويعشقها، وانها هذه موجودة مجتمعة في المنهج المدرسي الذي اوجبته فلسفة تعليمية قديمة، عفا عليها الزمن، وتجاوزتها الدول المتقدمة، وان نجاح التلميذ وتفوقه في مادة معينة لا يعني انه كذلك في مادة اخرى، يكرهها اصلا، وان نجاحه وتفوقه في كل المواد، شرطا للتأهل العلمي، يعني اعاقته في الغالب، ومن ثم تدميره نفسيا، وهو ما كان ومازال يحصل للكثيرين ممن ضاع مستقبلهم نتيجة لذلك. فليس كل طالب مؤهل ليكون عالم كيمياء، وان هذه الثقافة مطلوبة من خلال اطلالة عامة، بشرط ان لا تكون عائقا امام تلميذ تبدو عليه علامات التفوق في الفيزياء والجغرافية وغيرها، وان رسوبه بسبب مواد غير هذه، يعني خسارة لمشروع عالم في مجال يمكن ان يخدم به بلده. فالطبيب تحتاجه الناس للعلاج وليس للخطابة او لروي التاريخ، مثلما تحتاج من الاديب والفنان عطائهما المعروف، وهكذا يتكامل بناء الحياة بتكامل هوايات الناس وميولهم التي فطروا عليها.

نتائج امتحانات البكالوريا لهذا العام، والتي جاءت مخيبة للآمال، تعد امرا طبيعيا، لان تلميذ هذا العصر لا يستطيع، وسط ثورة الاتصالات التي تحاصره مغرياتها في البيت والشارع وفي كل مكان من خلال الستلايت والنت والموبايل، ان يكون ملما بكل المواد، وان ترك الطالب يتجه الى المادة التي يعشقها او يجد نفسه فيها، مع ثقافة عامة محايثة غير ملزمة لنجاحه، بات امرا لابد منه، وشرطا حضاريا لصناعة جيل علمي، بدلا من تثقيف مزيف ومفروض ينساه التلميذ والطالب بعد ان يغادر قاعة الامتحان.

في الدول المتقدمة، لا يمتحن التلميذ في الصفوف الاولى، او هكذا يقول من سافروا او عاشوا هناك، بل يترك يتعلم بدون ضغوط امتحانية ويراقب ايضا من قبل اساتذته، ليعرفوا لأي اتجاه يميل، وحين يصل الى مرحلة معينة، يخصص بدراسة المادة التي يحبها ويتفوق فيها، والبقية تتحول الى ثقافة عامة صار بإمكانه ان يتحصل عليها بأكثر من طريقة، وكما ذكرنا آنفا.

هل نتعلم من العالم المتقدم ونستلهم العبر والدروس لكي نستفيد؟ اعتقد اننا في مأزق كبير، واخطره في مفصل التربية ومراحلها الاولى.