التهدئة والمصالحة الفلسطينية معا

نزيف الخلافات الفلسطينية يجب أن يتوقف.

الجدل المحتدم حاليا بين الفصائل الفلسطينية المختلفة حول أيهما يجب انجازه أولا، التهدئة أم المصالحة، يؤثر على انجاز الخطوتين. فحركة فتح التي ترى في تمكين السلطة الوطنية من قطاع غزة أولوية لن تستطيع الوصول إلى هذا الهدف في ظل استمرار الإجراءات التصعيدية بين إسرائيل وحماس، لأنها تمنح الأخيرة مبررات يمكنها أن تعطل بها التمكين.

المسألة أصبحت لا علاقة لها بالأولويات والتقديرات السياسية، لأنها قاصرة على الرؤية الضيقة التي تريد بعض الأطراف تنفيذها على الأرض، رغبة في التكويش على السلطة أو حرصا على منع آخرين من التضخم المعنوي، ما جعل القضية الفلسطينية تعاني من أزمات كثيرة، كلما لاحت في الأفق بارقة أمل، ظهرت علامات تعيدها إلى المربع صفر.

المعركة الحالية تبدو في بعض جوانبها مفتعلة، وبعيدة تماما عن الأهداف التي تخدم القضية الأم، وتدخل باختصار في باب تصفية قديمة للحسابات، والصراع على قيادة الدفة الفلسطينية، بصرف النظر عما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من مشكلات تساهم في وضع المزيد من العراقيل لاستكمال مسيرة النضال في مواجهة إسرائيل.

الطريقة التي تدير بها مصر اللقاءات والاجتماعات والحوارات مع الفصائل الفلسطينية، راعت منذ البداية هذه المشكلات، وسعت إلى إزالة عثرات كثيرة في مجال التهدئة ورفع الحصار وانهاء الانقسام وتحقيق المصالحة، ثم العمل على توفير الأجواء المناسبة للشروع في تسوية سياسية تضمن الحد المقبول لنصرة القضية الفلسطينية.

سياسة الخطوط المتوازية الوسيلة الرئيسية التي اتبعتها القيادة المصرية في التعامل مع الملف الفلسطيني، بكل تعقيداته السياسية والأمنية والاقتصادية، وحققت نجاحات كبيرة على هذه المستويات، كادت أن تنهي جملة كبيرة من الخلافات، لكن تصميم البعض على الدخول في تفاصيل دقيقة ومثيرة لتعطيل الحل تسبب في المزيد من المشكلات المزمنة.

تقدم ملف على آخر كان ينبع من طبيعة المرحلة، فقد تقدم ملف التهدئة نسبيا لأنه أحد المحاور الأساسية التي تنطلق منها باقي الخطوات، وكان لزاما تحقيق اختراق واضح فيه ليكون مقدمة سليمة لعزل المنغصات التي يحلو للبعض تفجيرها عندما يحين الوقت لتجاوز مطبات عميقة.

التفاهمات المصرية والأممية، من خلال نيكولاي ميلادينوف مبعوث الأمم المتحدة للسلام في الشرق الأوسط، وعزل قطر عن ممارسة ألاعيبها، ساهمت بدور كبير في الأولوية التي مُنحت لملف التهدئة، لأنها مرتبطة بشكل كبير بفك الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة، وهي فرصة لتحقيق تقدم كبير على هذا المستوى في الوقت الراهن، بعد فترة طويلة من المماطلات من جانب المجتمع الدولي، ترك إسرائيل تمارس عنفها وإجرامها للتضييق على المواطنين في غزة.

الواضح أن مصر كانت حريصة في خطواتها على مستوى الملفات المختلفة، على حضور السلطة الفلسطينية، أو من ينوب عن قيادتها الشرعية، وبذلت جهودا كبيرة في هذا السياق، لكن البعض كان يتعمد إثارة الغبار والتحريض، وتوجيه اتهامات لا تستند لخبرة مصر مع القضية الفلسطينية أو تاريخها الطويل المشرف في نصرتها وقت الحرب والسلم، وهي الرؤى التي أثبتت الأوضاع المتدهور حاليا صحتها.

المثير أن التهدئة التي يتم الحشد لها وتشجيعها من قبل جهات إقليمية ودولية، تبدو مرفوضة من الطرفين الرئيسيين، أي إسرائيل وحماس، وتشبه "السُم" الذي ابتلعه الخميني في إيران عندما قبل بوقف إطلاق النار مع الرئيس العراقي صدام حسين.

معظم المعلومات والتصريحات القادمة من المسؤولين في إسرائيل أو قيادات حماس، تؤكد أن الهدنة مؤقتة، ويمكن أن تنهار في أي لحظة، لذلك يعمل الوسيط المصري والأممي على تثبيتها لأطول فترة ممكنة، لتستطيع القاهرة استكمال المهمة على أصعدة أخرى.

الحاصل أن الهدنة تحولت إلى فضاء للمزايدة ليس فقط لدى فتح، لكن أيضا لدى كثير من المسؤولين الإسرائيليين، فمنهم من يرى فيها مكافأة للمقاومة الفلسطينية، ومنهم من يعتقد أنها محاولة من جانب بنيامين نتانياهو رئيس الوزراء للهروب إلى الأمام لترتيب أوضاعه السياسية القلقة، لذلك اتخذت بعض الأحزاب منها وسيلة ضغط على نتانياهو لحرمانه من ثمارها الأمنية، وهو نفسه لم يضبط صراحة أنه مع الهدنة بدون وضع شروط تعجيزية، إذا تم التفكير فيها بعمق ستنسف التسوية مستقبلا.

حماس أيضا دخلت مجال الرفض العلني لها، ووضعت شروطا، لكنها في النهاية بدت منحازة لتهدئة قد تمكنها من تحقيق مكاسب سياسية على الساحة الفلسطينية وتعويض الخسائر التي تكبدتها بسبب الحصار الإسرائيلي على غزة.

المضي قدما نحو التهدئة سوف يستمر حتى لو جرى تطبيقها ضمنيا، في ظل التعقيدات التي ظهرت من قبل أطراف مختلفة، ما يمنح الملفات الفلسطينية الأخرى فرصة كبيرة لمناقشتها والتغلب عقباتها المتراكمة، وتجاوز عملية الاستقطاب التي زادت خلال الأيام الماضية، وجعلت بعض الفصائل تنتقل من معسكر إلى آخر، وهو طريق تمت تجربته سابقا وأكد أن من يمارسون هذه اللعبة يتجاهلون التغيرات والتطورات المتسارعة.

عندما أجاد الرئيس الراحل ياسر عرفات هذه اللعبة، كانت الأوضاع الفلسطينية والإقليمية والدولية مساعدة له، لكن الآن الأمور لن تميل لمن يحاولون تكرار نموذج الزعيم أبوعمار، من خلال الإغراء والترهيب، فالكاريزما مختلفة، والرجال أهواؤهم أكثر ألما، لأن تقديراتهم تتغلب فيها التقديرات الشخصية على حساب نظيرتها الوطنية.

الفترة المقبلة فاصلة في عمر العلاقة بين القوى الفلسطينية، ويمكن أن تسفر عن توافقات مهمة توقف نزيف الخلافات، لأن المناقشات التي دارت خلال الأسابيع الماضية كشفت بعض الحقائق التي يؤدي تجالها لمزيد من التحديات، وتدخل القضية الفلسطينية نفقا أشد بغضا وعمقا.

التلميحات الإيجابية وصد التوجهات السلبية التي ظهرت أخيرا، من المهم الاستفادة منها والتركيز على مكوناتها الداعمة للتلاحم الوطني، والابتعاد عن التراشقات التي أدمت قلوب كثيرين كانوا يعتقدون أن الأزمة وروافدها القاتمة كفيلة بوقف التصورات والممارسات المرتبكة.

لا تزال هناك فرصة تقدمها مصر لجميع الأشقاء الفلسطينيين، تقوم على الدخول في حوارات جماعية، بمعنى أن تكون أولوية كل ملف بقدر علاقته وتأثيره على الملفات الأخرى، لأن كلها مربوطة في سلسلة واحدة، عنوانها التفاهم والتراضي وتقديم التنازلات كي تسير السفينة الفلسطينية ولا تتوقف عند أي من المحكات التي تتمنى إسرائيل سقوط الجميع فيها.