التونسيون يضعون شرعية الحصص الانتخابية في الميزان

مراقبون يرون أن نتائج الانتخابات قد تقود إلى تغيير نسبي بشأن معادلة الحكم من خلال انفتاح التركيبة الحكومية المرتقبة أكثر على الكفاءات المستقلة.
نتائج الانتخابات كشفت تآكلا كبيرا لقواعد الأحزاب الانتخابية
الفئات الهشة والمتوسطة تتقاسم نوعا من الغبن على الأحزاب السياسية
اختيار المستقلين بحثا عن الأوزان البرامجية

أظهرت نتائج الانتخابات البلدية في تونس التي أعلنتها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات فجر الخميس أن التونسيين وضعوا شرعية الحصص الانتخابية للأحزاب السياسية في الميزان لفائدة قوائم مدنية غير متحزبة، في أول تجربة بعد انتفاضة يناير/كانون الثاني 2011 لتشكيل مؤسسات حكم محلي تمكن أهالي الجهات من إدارة شؤونهم المحلية بأنفسهم في مسعى لاستكمال المسار الانتقالي الديمقراطي للبلاد.

وبقدر ما مثلت الانتخابات التي جرت في أوضاع اقتصادية وسياسية واجتماعية مفصلا من مفاصل التنشئة على الممارسة الديمقراطية على المستوى المحلي وسط تنافس لم يخل من الشراسة، بدت مؤشرا على أن العملية السياسية التي هي من مشمولات الأحزاب والطبقة السياسية عموما لا تحظى بثقة غالبية التونسيين حيث لم يتوجه إلى صناديق الاقتراع يوم 6 مايو/ايار سوى 35.6 بالمئة من الجسم الانتخابي.

غير أن هذه النسبة التي تعد مقبولة نسبيا حتى بالمقارنة مع تجارب الديمقراطيات العريقة تحجب مؤشرات تكاد تكون صادمة ولا تعكس طبيعة العملية الانتخابية إذ لم تتجاوز نسبة المشاركة في دائرة تونس الاولى سوى 26 بالمئة على الرغم مما تمثله من كثافة سكانية وثقل سياسي ورمزية باعتبارها تحتضن السلطة المركزية ممثلة في مؤسسات الدولة التشريعية والقضائية والتنفيذية.  

يبدو، كما يذهب إلى ذلك محللون، أن حزام الأحياء الشعبية الكثيف السكان الذي يحيط بالعاصمة تونس حيث تنتشر البطالة بنسبة تتجاوز 15 بالمئة والفقر بنسبة 18 بالمئة، من جهة ووجود فئة متوسطة ومسيسة دفع بالناخبات والناخبين إلى العزوف.

ويقول مراد علالة المحلل السياسي إن "الفئات الهشة والمتوسطة تتقاسم نوعا من الغبن على الأحزاب السياسية لا يتغذى فقط من صعوبة الأوضاع وتدهور المقدرة الشرائية وإنما يتغذى أيضا من نوع من الوعي بأن تدني الثقة في السياسة بصفة عامة".

ويضيف علالة لمراسل ميدل ايست اونلاين "إن مثل تلك الفئات لا ترى في الانتخابات البلدية عملية محلية بقدر ما ترى فيها عملية سياسية كما لو أنها انتخابات برلمانية ورئاسية إضافة إلى الشعور بالحيف في ظل وجود أحياء راقية تسكنها فئات ميسورة ومرفهة يرى فيها غالبية التونسيين معاقل السياسيين وتمثل عنصر استفزاز".

ويبدو أن أهالي الجهات الداخلية أكثر تحمسا للمراهنة على المجالس البلدية حيث تقترب نسبة المشاركة من النسبة العامة إذ تتراوح ما بين 28 بالمئة بالنسبة في جهة تطاوين جنوب البلاد و37 بالمئة بالنسبة لمحافظة سليانة وهو ما يفسر أن أهالي تلك الجهات يتطلعون إلى مؤسسات حكم محلي ممثلة لهم وتوفر لهم التنمية والتشغيل.

المزيد من الضغوط على الحكومة
المزيد من الضغوط على الحكومة

ويرى مراد علالة أنه "على خلاف الفئات الهشة والشرائح السفلى من الطبقة الوسطى التي قاد بها الشعور بالحيف الاجتماعي إلى التصويت العقابي أو الاحتجاجي فإن الفقر وتردي الأوضاع كان دافعا لا بأس به لأهالي الجهات للتوجه إلى صناديق الاقتراع.

تآكل القواعد الانتخابية للأحزاب

كشفت نتائج الانتخابات تآكلا كبيرا لقواعد الأحزاب الانتخابية بما فيها حركة النهضة، إذ لم يصوت لها سوى 28.64 من الناخبين وهي نسبة تعادل تقريبا نصف الأصوات التي حصلت عليها في الانتخابات البرلمانية الماضية.

ويرى مراقبون أن النهضة الممارسة الديمقراطية المحلية وضعت الحركة الإسلامية على المحك رغم أن غالبية قائماتها ترأسها مستقلون اقتناعا من الناخبين بأن الحركة لا تمتلك مشروعا برامجيا مدنيا بقدر ما تراهن على رفع شعارات لا تتفاعل عمليا مع مشاغل الأهالي وتطلعاتهم إلى حل معضلات اقتصادية واجتماعية.

وفي محاولة لتخفيف تراجع الوزن الانتخابي للحركة اعتبر رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي النتائج "إيجابية ومقبولة" مشيرا إلى أنها "تكاد تعادل النتائج في بلدان الديمقراطيات العريقة". حتى أنه وصف مسار الانتخابات البلدية بـ"العرس" الديمقراطي".

غير أن المتابعين لشؤون النهضة يشددون على أن "الوزن الانتخابي للحركة ما انفك يأخذ خلال السنوات الأربع الماضية نسقا تراجعيا منه ما يعود إلى انطوائها وعدم انفتاحها على المجتمع ومنها ما يعود إلى رفض الآلاف من الكوادر الوسطى والقواعد لرئاسة الغنوشي إضافة إلى التوجس العام من أجندة الحركة وخطابها المزدوج.

ولم يكن حزب نداء تونس بمنأى عما كشفته الانتخابات من تآكل وزنه الانتخابي إذ لم يتجاوز 20.85 بالمئة وهي صدمة وضربة موجعة بالنسبة لحزب علماني يقود مشروعا وطنيا حداثيا ضد الإسلام السياسي في مجتمع منفتح ولبرالي وفي مشهد سياسي متعدد فكريا وسياسيا ذي مسحة لبرالية ملائمة لنشاط النداء.

ووفق قراءات فقد دفع النداء خلال الانتخابات ثمن تحالفه مع النهضة وتنكره لوعوده تماما كما دفع ثمن فشل حكومته التي يقودها يوسف الشاهد وسط أزمة سياسية وهيكلية ألقت بتداعياتها السلبية على نظرة التونسيين للحزب الذي كثيرا ما راهنوا عليه.

ويرى سياسيون وخبراء أن كل من النهضة والنداء رغم النتائج التي حققاها لم يغفر لهما الناخب التونسي سطوتهما على القرار الإداري والسياسي والهيمنة على المشهد السياسي واستضعاف القوى الديمقراطية حتى أنها أنسبت من الحكومة.

ولم تنجُ الجبهة الشعبية اليسارية المعارضة هي الأخرى من تآكل وزنها الانتخابي حيث لم تتجاوز نسبة التصويت 4.19 بالمئة وهي نسبة متدنية جدا لا تتناسب وعراقة اليسار التونسي الذي تأسس منذ العام 1920 ليتراجع وزنها إلى المرتبة الرابعة.

وعلى الرغم من أن حمة الهمامي الناطق باسم الجبهة ما انفك يقدمها على أنها البديل البرامجي للتحالف إلا أنه عمليا لم يتوصل الائتلاف اليساري إلى فك عزلته التي فرض على نسه في نخبة علمانية ضيقة تكاد تكون خارج غالبية الفئات الاجتماعية.

وأقر الجيلاني الهمامي القيادي في الائتلاف بان الجبهة غير راضية عن النتائج التي حققتها غير لم يقدم أي تفسير مكتفيا بأن الجبهة ستنظم اجتماعا للتقييم والوقوف على نقاط القوة ونقاط الضعف من أجل الرفع من أدائها.

أما الائتلاف المدني الذي يتكون من 11 حزبا ويقدم نفسه كقوة بديلة فقد أظهرت النتائج أنه ما زال يبحث بعد عن وزنه الانتخابي إذ لم تتجاوز نسبة التصويت إليه 1.77 بالمئة.

ويرجع مراقبون هذه النتيجة الهزيلة إلى عدة عوامل منها أنه حديث العهد حيث تأسس خلال الأشهر الأخيرة ومنها الخلافات العميقة بين مكوناته إذ يضم أحزابا لبرالية مثل الجمهوري وآفاق تونس وأحزابا ذات توجه قومي مثل حركة الشعب وغيرها.

ويرى مراقبون أن في تآكل القواعد الانتخابية وتدني نسب المشاركة وفوز المستقلين تآكل شرعية الأوزان الانتخابية التي كثيرا ما يتحجج بها النداء والنهضة للهيمنة على المشهد السياسي والتموقع ضمن مراكز القرار الحكومي.

الهجرة إلى المستقلين

قاد تآكل القواعد الانتخابية للأحزاب بغالبية الناخبات والناخبين إلى الهجرة إلى قائمات المستقلين التي فازت مجتمعة بأعلى نسبة تصويت بلغت 32.9 بالمئة وهي مفاجأة فاجأت انتظارات السياسيين وغالبية فئات المجتمع.

المستقلون يستفيدون من الغضب على السياسيين
المستقلون يستفيدون من الغضب على السياسيين

ووصف مراقبون المفاجأة بـ"هجرة الناخب من الأحزاب السياسية التي لا تحظى لديه بالثقة إلى القائمات المستقلة التي ركزت على تعهدات تتعلق بتحسين ظروف العيش.

وقال حسن الزرقوني مدير مؤسسة "سيغما كونساي" المتخصصة في سب الآراء إن "في الانتخابات التي يطغى عليها الطابع الأيديولوجي مهما كان يلوذ الناخب إلى القائمات التي تقدم وعودا بحل المشكلات اليومية المعيشية بعيدا عن الخطاب الإيديولوجي".

ويضيف الزرقوني أن من أهم عوامل فوز المستقلين هو أن التنافس بين النهضة والنداء طغى عليه البعد السياسي لا التركيز على تفصيل الحياة اليومية للناخب وبدت الانتخابات كما لو أنها انتخابات برلمانية أو رئاسية والحال أنها محلية تعنى بالمشاغل الحياتية.

وتستبطن هجرة الناخبات والناخبين التونسيين من القائمات الحزبية إلى القائمات المستقلة نوعا من الهجرة الباحثة عن شرعية الأوزان البرامجية التي تعد الأكثر إقناعا واستقطابا لأصوات أهالي الجهات التي لم ترى أن الأوزان الانتخابية فقدت شرعيتها في ظل أزمة سياسية وهيكلية لم تقد فيها الأحزاب أي جهود للحد من تداعيتها والخروج منها. 

تداعيات

من أهم التداعيات الإيجابية التي حققتها الانتخابات البلدية هي التنشئة على الممارسة الديمقراطية المحلية خاصة بالنسبة للشباب وللمرأة حيث فسحت المجال أمام أهالي الجهات لمنح أصواتهم لمن يثقون في وعودهم ولمن يرون برامجهم الأكثر قربا لمشكلاتهم الاقتصادية والاجتماعية وليس أدل على ذلك من أن فئة الشباب التي يقل عمرها عن 35 سنة استأثرت بنسبة 37.16 بالمئة من مجموع مقاعد المجالس البلدية

وساعدت المناصفة المرأة التونسية من تعزيز حضورها في إدارة الشأن المحلي حيث تمكنت من حصد 47 من المقاعد وهو ما يعادل 3385 مقعدا.

لكن تبقى تداعيات تآكل القواعد الانتخابية للأحزاب السياسية من جهة وهجرة الناخب للمستقلين أهم التداعيات على الإطلاق إذ تراجعت الأوزان الانتخابية للأحزاب لصالح أوزان القائمات المستقلة وهو ما يعني ضمنيا أن إدارة الشأن العام والشأن المحلي باتا في جانب منهما على الأقل تحت قبضة قوى مدنية غير ناشطة حزبيا.

ويرى مراد علالة أن "ليس بإمكان أي حزب اليوم الحديث عن الشرعية الانتخابية ليفرض سطوته على المشهد السياسي أو التنفذ في مواقع القرار الحكومي" مشددا على أن "مرحلة ما بعد الانتخابات ستلعب فيها القوى المدنية وفي مقدمتها اتحاد الشغل دورا رئيسيا في ما يتعلق بالسياسات التنموية والاجتماعية".

ويتوقع علالة أن تونس، وبناء على تآكل الشرعية الانتخابية للأحزاب من جهة، وفوز المستقلين من جهة أخرى، تتجه أو هكذا يفترض نحو تركيز حكومة أكثر انفتاحا على الكفاءات من التكنوقراط والتخفيف من تحزيب التركيبة الحكومية وهو من شأنه أن يساعد على الخروج من الأزمة وينفس حالة الاحتقان".

وفي ظل تآكل تلك الشرعية الانتخابية بدت صناعة السياسة في تونس ليست بالضرورة حكرا على الأحزاب السياسية سواء منها المؤتلفة في الحكم أو المعارضة وإنما هناك قوى مدنية ممثلة في فئة واسعة من المستقلين وفي منظمات المجتمع المدني وفي مقدمتها اتحاد الشغل ونقابة أرباب العمل وغيرهما.

رغم الهنات بدت الانتخابات البلدية الأولى من نوعها منذ انتفاضة 2011 تجربة ناجحة لا فقط بإشادة غالبية القوى السياسية والمدنية التونسية والجمعيات والمنظمات المعنية بل أيضا بشهادة مراقبين غربيين مثل بعثة الاتحاد الأوروبي التي وصفتها بـ"التعددية والمصداقية".

ويتطلع التونسيون إلى أن يقع استثمار النجاح النسبي للانتخابات سياسيا باتجاه التقدم بالمسار الديمقراطي وتنمويا باتجاه تنفيذ البرامج التي قدمتها القائمات الفائزة في 350 دائرة بلدية موزعة على كامل جهات البلاد.

غير أنهم يخشون بالمقابل أن تتحول المجالس البلدية التي فازت بها الأحزاب إلى أذرع محلية لأجندات وتحالفات قد تفرغ مؤسسات الحكم المحلي من محتواها.

ويرى مراقبون أن نتائج الانتخابات قد تقود إلى تغيير نسبي بشأن معادلة الحكم من خلال النأي بالتركيبة الحكومية المرتقبة عن التحزيب والانفتاح أكثر ما يمكن على الكفاءات المستقلة غير المتحزبة التي تمثل جيلا جديدا صاعدا في الجهات.