التونسيون يلوذون من كورونا والضغوط اليومية بحديقة 'البلفيدر'

الحديقة التي تأوي أنواعًا من الحيوانات البرية والطّيور النّادرة تمتد على مساحة 12 هكتارًا وسط العاصمة تونس.
الحديقة تستقبل أكثر من 800 ألف زائر سنويًا
الإقبال على "البلفيدر" يكون في ذروته يومي السّبت والأحد

تونس - بعيدا عن روتين الحياة اليومي وهربا من مشاكل سياسية واجتماعية لا تنتهي، يصطحب التونسيون أطفالهم إلى حديقة "البلفيدر" بالعاصمة أملا في اقتناص لحظات هادئة ونسج ذكريات تبقى إرثا لهم ولأولادهم بقية حياتهم.
وتمتد حديقة البلفيدر التي تأوي أنواعًا من الحيوانات البرية والطّيور النّادرة على مساحة 12 هكتارًا وسط العاصمة تونس.
يقصدها الزّوار من مختلف المناطق ويعتبرونها من أفضل الوجهات الترفيهية لأطفال العاصمة للترويح عن النّفس، فهي باتت مُتنفسًا لسكان العاصمة هربًا من نسق حياةٍ سريع ومشاكل سياسية واجتماعية لا تُعد.
فيروس كورونا هو الآخر ومنذ انتشاره بالبلاد في مارس/آذار من العام الماضي فرض التزامًا بعدم التواجد في هذا الفضاء كغيره من الأماكن التي يختلط فيها النّاس.
يقول محمود العتيري، الطّبيب البيطري الأول لحديقة البلفيدر للحيوانات إنّ "الحديقة تأسست سنة 1963 على 12 هكتارًا فهي فضاء أخضر ومتنفسٌ هو الأكبر لسكان العاصمة".
ويتابع: "تأوي الحديقة أنواعا عديدة من مختلف الحيوانات الأليفة والبرية من مختلف المناطق بالعالم".
ويضيف: "الحرص كبير بالنسبة لمسؤولي الحديقة التي تمولها بلدية العاصمة على أن يحافظ هذا الفضاء على كونه وجهة أساسية للخروج من نسق الحياة اليومية، حيث تستقبل أكثر من 800 ألف زائر سنويًا".

الحديقة تأسست سنة 1963 وهي فضاء أخضر ومتنفسٌ هو الأكبر لسكان العاصمة

الأطفال ملوك البلفيدر المتوجون
لا تبعد الحديقة عن وسط العاصمة أكثر من كيلومترين اثنين على الأكثر والوصول إليها متاحٌ من أكثر من طريق.
أمام البوابة القديمة وقبل الوصل إلى باب الدخول وقف العشرات من باعة الألعاب والأقنعة والحلويات، فالفرصة كبيرة نهايات الأسابيع (السبت والأحد) للحصول على قوت من ابتسامات الصغار والزائرين.
شخصيات الرّسوم المتحركة وأبطال مُسلسلات "المانغا" تُزيّن وجوه الأطفال والسّعادة في تلك اللّحظات ستتحول قصةً ترافقهم لسنوات قادمة.
الصّفُ كان طويلًا قبل الوُلوج إلى الحديقة، لكن لا أحد يتلكّأُ ولا شيء يدعو للإسراع عكس مُمارسات الحياة العادية التي يكون فيها الجميع باحثًا عن ربح بعض الثّواني وفق مقتضيات النّسق السّريع للحياة خارج الحديقة.
الآباء والأمهات هنا لا شيء ليُفكروا فيه إلّا تلبية ما يطلبُه صغارهم الذين لا يجدُ بعضهم مكانا لحمل لعبةٍ أخرى لكثرة ما استجيبت طلباتهم، أو ستنقلب الرّحلة بكاءً وانتحابًا تكفي قطعة حلوى (غزل البنات)، بلونيها الزّهري والأزرق، أو تفاحةٌ محلاة (نبوت الخفير) لإنهاء الأزمة الصّغيرة.
بعيدًا عن صخب الطرقات ومزامير السّيارات، في "البلفيدر" كل الأطفال هنا أحرارٌ في الرّكض واللّعب، فقط رقابة صامتة من المرافقين، وفرصة لبعض الأزواج لاسترجاع لحظاتٍ خاصّة لم تعد متاحة في حضرة الأطفال ومسؤولياتهم.
زخمٌ من الأسئلة على لسان كل طفلٍ يرغب في العودة لأقرانه بمعلومات جديدة عن الرّحلة السّاحرة إلى الحديقة، ترافقها إجابات قد تكون أحيانًا بدقة إجابات الأخصائيين، هنا الآباء جهزوا أنفسهم جيدًا ودرسوا في الليلة السابقة لتقديم الإجابات المناسبة.
يقول وليد، حاملًا ابنته الصغيرة بعد قضاء جولته: "اليوم كان جميلًا رفقة العائلة، هنا مساحة للابتعاد عن نسق الحياة العادي، الحديقة متنفس للعاصمة ولنا".
وأوضح: "أواظب على زيارات متكررة هنا، والأهم بالنسبة لي أن يلهو أطفالي ويكونوا مبتهجين".
من جهتها قالت أروى، التي كانت رفقة زوجها وابنيها: "الأمر مختلف بالنسبة لنا لدى زيارتنا البلفيدر قضينا وقتا ممتعا والحديقة مساحة خارج الزمن والمكان، بالنسبة لي وللكثيرين من سكان العاصمة الذين يزورون المكان باستمرار".

لا نقاش ولا جدال ولا سياسة
الإقبال على "البلفيدر" يكون في ذروته يومي السّبت والأحد حيث تكون الرّاحة الأسبوعية، ويختار الكثيرون زياراتٍ متواترة على الحديقة ليشاهد أبناؤهم الحيوانات ويتنفسوا هواء نقيًا بعيدًا عن البروتوكول الصّحي الذي يفرض حضور الكمامة الطبية ووسائل تطهير الأيدي التي لم تغب عن هذه الرّحلة الصغيرة.
إلى داخل الحديقة تبدأ رحلة الاكتشاف ومشاهدة حيوانات تكون الأولى للكثير من الأطفال الذين تستقبلهم الحديقة على مدار السّنة، حيث تكون وجهة رحلات مدرسية من مختلف جهات البلد.
صيحات الفرحة تصل إليك من كل زوايا الحديقة.. "دبٌ يا أبي" و"الأسد نائم يا أمي" أو "النّمر الرمادي جميل".. هي بعضٌ من عشرات العبارات التي تخرج من أفواه الصغار ترافقها فرحة وسعادة.
بعض الأطفال يُصرونّ في حوارات قصيرة ألا يغادروا المكان إلا ومعهم حيوان ما؟ غزال أسمر.. أو نمر رمادي، ويصل الأمر أحيانًا إلى طلب طفل أن يأخذ معهُ أسدًا إلى المنزل.
هنا وفي خضم الجولة وسط حديقة "البلفيدر"، عكس الاستعمالات الكثيرة والتي لا تنتهي للهواتف الجوالة، يكتفي الآباء باستعمال الهواتف فقط لالتقاط صورة أو فيديو سيكون ذكرى يُصافحها صغارهم لاحقًا.
لا وقت للمكالمات أو الحديث عن العمل، لا نقاشات هنا أو جدال في مشاكل السّياسة، أو أزمات الاقتصاد، وطلبات المجتمع التي تطالعنا في الصّفحات الأولى للجرائد وعناوين المواقع الإلكترونية.
فقط لحظات سعادةٍ وعيون لامعة تحاكي اقتناص مساحة زمنٍ تُغني عن تعب أيامٍ وأشهرَ من الروتين، وتكرار نفس طريق الرّحلة اليومية إلى العمل ومنه إلى المنزل.
وسط الحديقة الشّاسعة التي تحتل مكانًا خاصًا في قلب العاصمة التّونسية الفطور جاهز تم شراؤه من قبل البعض، وآخرون جهزوا للأمر مسبقًا حيث يتم افتراش الأرض الخضراء، وينعم الجميع بأكلة خفيفة قبل مواصلة المسير وسط المكان أو خارجه.
بالخارج المساحة الخضراء أكبر بكثير من الحديقة نفسها، كل زائر لا بدّ له من مشاهدة شجرة عملاقة قد يكون عمرها مئات السنين، شجرة المطاط (كاواتشو) أغصانها يصل بعضها إلى مائتي متر تكون مكانا لتأرجح العشرات من الأطفال.
مئات السّيارات مركونة على جنبتي الطريق والسّهل المتموج تتوسطه أشجار من أنواع عديدة تكون الظلال أسفلها مكانًا لجلسات عائلية أو لقاءً للأصدقاء بعيدًا عن المقاهي والمطاعم والأماكن المتاحة في بقية أيام الأسبوع.
وتعاني تونس من أزمة اقتصادية واجتماعية حادة حيث شهدت مختلف مناطق البلاد احتجاجات عديدة طوال الفترة الماضية.