الثورة الجزائرية في الشعر العربي بين الأيديولوجيا والشعرية (3)

شعراء من مصر عبد الناصر والقومية العربية ومناصرة حركات التحرر كتبوا نصوصا عن ثورة الجزائر لا يعدهم حصر ولا يأتي على ذكرهم جميعا قلم لكثرتهم.

وفي مصر مهد التجديد في الشعر والنثر على السوية ومهد الحركة النقدية الخصبة التي دشنتها جماعة الديوان وأبولو، مصر عبد الناصر والقومية العربية ومناصرة حركات التحرر، وعلى أراضي الكنانة استمر النضال السياسي للقيادات الجزائرية ومن إذاعة" صوت العرب" كانت الملايين تنتظر بيانات الثوار وأخبار المعارك بصوت المذيع الجهوري الذي يجعل الفرائص ترتعد لفخامة الصوت وروعة التقديم المندغم مع تفاصيل الحدث الثوري، شعراء كثر كتبوا نصوصا عن ثورة الجزائر لا يعدهم حصر ولا يأتي على ذكرهم جميعا قلم لكثرتهم ومن الشعراء العموديين محمود غنيم (1902/1972) الذي كتب نصوصا كثيرة عن هذه الثورة من منطلق ديني وقومي معا وكأن الشعراء المحافظين على عمود الشعر لم يرتضوا إلا الاندغام في الهم القومي ومساندة الثورات والتحرر كي لا يتهموا  بالرجعية والانفصال عن الواقع وكان رواد الشعر الحديث يأخذون عليهم التقليد والمحافظة والانفصال عن الحياة الراهنة بزخمها وتناقضاتها ويومياتها يقول محمود غنيم:

جبل الجزائرأنت يــــا

أوراس جبال المجازر

هل فيك شبر لم يحظ

به دم من جرح ثائـــر؟

مثل لعمري أنت لـــل

حرية الحمراء سائـــر

وهو يحيل علي بيت شهير لشوقي:

وللحرية الحمراء باب

بكل يد مضرجة يــدق

ومحمود غنيم بالرغم من كلاسيكيته إلا انه اقترب في لغة شعرية سهلة واضحة بعيدة عن الفخامة والرصانة والمتانة التي نجدها عند الشعراء المحافظين وثيمته المفضلة هي الأوراس وهو كذلك ثيمة مفضلة لبعض الشعراء فهو رمز انطلاقة الثورة وهو معقل الثوار والمتمردين إنه المكان الذي يؤويهم ويخفيهم ويحميهم وهو الباذخ الذي يطاول أعنان السماء بغارب كما وصفه ابن خفاجة الأندلسي إنه ملجأ الأواب المتبتل والثائر المتمرد فلا عجب أن يغدو الأوراس ثيمة شعرية مفضلة كما كانت جميلة الإنسان والأنثى والثائرة وهذا التنوع في الثيمات الشعرية يضفي على ديوان الثورة الجزائرية التنوع والتجدد والخصب ولا يسير على منوال الرتابة والاجترار والنمطية والتآكل بفعل الزمن .ومثل محمود غنيم أبدع كثير من شعراء مصر نصوصا في نصرة الثورة والإشادة ببطولات وتضحيات الشعب لا تختلف كثيرا عن نصوص محمود غنيم.

غير أن أهم شعراء مصر الذين كتبوا نصوصا للثورة الجزائرية هو أحمد عبد المعطي حجازي(1935-) وهو كشعراء مصر وسوريا الذين ركبوا موجة الجديد وتحمسوا له وأنتجوا نصوصا في ضوئه وتصدوا لهجمات المحافظين واندغموا في الهم العربي وآصار الواقع وخلصوا الشعر من دواوين الحكام وليالي المناسبات وتبعية القصيد لبيت المال في استمرار فاضح لظاهرة التكسب التي مارسها بلا حياء كثير من الشعراء في العصر الحديث، يتخلص حجازي من المباشرة والتهويل والانفعالية وينطلق في أفق الترميز والتجريد ومواكبة الإنساني والجوهري مستلهما التاريخ والتراث العربي الإسلامي وثقافة اليسار والنضال الإنسانية وهو ما يعطي لنصوصه جمالية خاصة وتلقيا استثنائيا :

يا زمنا راح

أنذا أبكيك ولكني

أشهد ميلادك في أوارس

فاشتدي أيتها الريح العربية

دوري في نار الحرية

فالنوستالجيا للزمن الأخضر زمن الفتح والنصر والبناء الحضاري كما كان في قرطبة وبغداد قد تبعث على الانكسار والهوان بهذا الواقع الهزيل ولكن الميلاد في الأوراس وهو أيضا ثيمة مفضلة لحجازي  يبعث على التفاؤل واليقين بالانتصار الحتمي وتأتي رمزانية الريح التي لا تبقي ولا تذر وهي ريح أسطورية اتخذها القرآن الكريم  وسيلة لقطع  دابر الكفار والعصاة مرة هي الريح العقيم ومرة أخرى هي الريح الصرصر العاتية  فالريح والإعصار كلمان شعريتان بامتياز عوض الألفاظ المباشرة.

وفي المحصلة كانت ثورة الجزائر العظيمة ثيمة مفضلة لكثير من  الشعراء العرب سواء من كتب على نمط القصيدة القديمة أم الحديثة لاعتبارات إنسانية وقومية ودينية ووجد فيها شعراء القصيدة الحديثة مضمارا شعريا للمنافسة والتجديد وحداثة المعنى ومواكبة المتطور والراهن والانتصار للإنسان الكادح والمسحوق وتخليص الشعر من القصور أو المناسبات والتكسب الفاضح وعبر الثورة الجزائرية  أمعن الشعراء المحدثون في ممارسة التجديد في القصيدة من حيث البنية والمضمون وفي استلهام التاريخ والتراث القومي و الشعبي والترميز والاستعانة بالأسطورة والانفتاح على الثقافة الإنسانية العالمية ورموز الكفاح العالمي وتحضر بقوة ثيمات معينة كجميلة والأوراس مما يدعو إلى القول بثقة كبيرة إن الثورة الجزائرية لوحدها تشكل ديوانا فخما في الشعر العربي الحديث.

وإن وجد في بعض الأشعار بعض الهفوات في ذكر أسماء الأماكن أو هفوات في التاريخ والثقافة المغاربية عامة فذلك راجع لنقص المعلومة والعزلة التي وضع فيها الاستعمار الشمال الأفريقي بله إن النبذ له تاريخ في الثقافة العربية منذ وصمت بلاد المغرب العربي بأنها "كم الثوب" و"ذيل الطائر" ومنذ أن انتقد الصاحب ابن عباد كتاب العقد الفريد لاتخاذه شعر المشارقة مرجعية  وهي عقدة استحكمت عند إخواننا المشارقة وأفاض في الحديث عنها عبد المالك مرتاض في مؤلفة "العقدة المشرقية المغربية" وكتب فيها المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري، لكن عزلة الجزائر مع الاستعمار الفرنسي لا مثيل لها فانقطعت أخبارها عن المشارقة  ثم الرقابة الاستعمارية المفروضة وهذا ما يفسر بعض الخلل في بعض الأشعار ناهيك عن بساطة وسائل الإعلام في ذلك الوقت بالقياس إلى الثورة التقنية في الإعلام والاتصال التي نحياها اليوم.

ولقد كانت الأيديولوجيا معينا لبعض الشعراء خاصة من  القوميين أو اليساريين ولا يعيبهم ذلك مادام المرء يحتاج إلى عقيدة وأرضية يستمد منها قناعاته وأفعاله ومواقفه الفكرية والنفسية وبهذه العقيدة يسترخص المرء كل شيء في سبيل المبدأ ومنه يستمد الشاعر الصور والمواقف والمعاني ولكن  بالنسبة لبعض الشعراء كانت الأيديولوجيا ضارة بإنتاجهم الشعري فسقطوا في فخ المباشرة والخطابية والتهويل وكان شعرهم في الثورة الجزائرية أقل قيمة من شعر البياتي مثلا حيث يحس المرء بالمنزع الإنساني واندغام العبارة والصورة الشعرية والإيقاع فيما هو جوهري وإنساني ومتجرد عن قيود الزمان والمكان محلقا في أفق الشعرية والإنسانية بصفة عامة.

ولبعض الشعراء ممن لم يعد يذكرهم التاريخ لم تكن الأيديولوجيا إلا قناعا سرعان ما سقط على القناع كما يقول دوريش فموج الزمن يأتي على هذه الذريرات ويطمسها إلى الأبد فلم تكن الأيديولوجيا إلا مطية للذيوع وركوب الموجة مادامت الثورة حديث الشعر والنثر معا وحديث الساعة وهذا الإنتاج هو أضال من أن يتحدث عنه كاتب أو ناقد.