نافذة على الشعر التركي الحديث واتجاهاته
أصدرت الهيئة العامة لقصور الثقافة في مصر في كانون الثاني/يناير2025 كتابا صغير الحجم في 158 صفحة عن الشعر التركي الحديث بعنوان رئيسي"أعرف من أي امرأة صرتُ شاعرا "وعنوان فرعي ثان" أنطولوجيا الشعر التركي الحديث" والعنوان الرئيس سطر شعري مقتطف من قصيدة للشاعر حيدر أرجولان من قصيدة أيلول:
تذهب المرأة، ويقال إنّ هذا هو الشعر
تذهب المرأة، ويولد شاعر من هذا
(أعرف من أيّ امرأة صرت شاعرا)
أيتها المرأة التي أنا ابنها
لا تتركيني
وثيمة المرأة كأم وحبيبة وزوجة وأخت وصديقة حاضرة بقوة في هذه الأنطولوجيا ،فالمرأة ظلت قابعة خلف سديم الإبداع وطينة الخلق الشعري الأول في جميع آداب العالم.
ويأتي العنوان الفرعي الثاني كعتبة ثانية تحيل على مضمون الكتاب في كونه منتخبات شعرية وتراجم موجزة لشعراء تركيا في العصر الحديث الذين انتقلوا بالشعر من مرحلة قديمة إلى مرحلة جديدة.
والكتاب ترجمه أحمد زكريا وملاك دينيز أوزدمير تضمن ترجمة مقتضبة لخمسة وثلاثين شاعرا وشاعرة مع منتخبات شعرية أبرزهم ناظم حكمت، نجيب فاضل، أورهان ولي، مليح جودت، أحمد عارف، أرديم بيازيد، رفيق دورباش، بهجت عيسان، شكري أرباش، حسين فرهاد، حيدر أرجولان، نيلجون مرمرة الشاعرة التي انتهت منتحرة عام 1987وهي في التاسعة والعشرين من عمرها.
لعل الشعر التركي الحديث هو الأقل حظا في الترجمة إلى اللغة العربية ،وقليل جدا من الشعراء الأتراك الذين يعرفهم القارئ العربي أو قرأ لهم شيئا من أشعارهم ولعل الاستثناء الوحيد هو ناظم حكمت الذي يعرفه القراء العرب جيدا وترجمت كثير من أشعاره إلى العربية ،والسبب هو احتفاء اليسار به منذ أوائل الستينيات والسعي إلى ترجمته وتقديمه إلى القارئ العربي.
إن الحديث عن الأدب التركي معقد تعقد الهوية التركية ، والمُطّلع على الأدب التركي يلاحظ أنه تأثر بالأدب الغربي منذ عهد السلطان عبد المجيد والفرمان الذي أصدره عام 1839 والمعروف بفرمان "التنظيمات" وهو يتضمن محاكاة النموذج الغربي وخاصة الفرنسي، وهكذا صار للأدب التركي رافدان الحداثة من جهة وهي تحيل على الغرب ثقافة وأنوارا وعلى الإسلام والتراث الشعبي من جهة أخرى.
في المرحلة الأولى لعهد التنظيمات منذ عام 1839 لم يجرؤ الشعراء على الذهاب بعيدا في التجديد فغيروا فقط في الموضوعات الشعرية مع الحفاظ عل شكل الشعر "الديوان العثماني" المتاثر ببحور العروض والأدب العربي والفارسي بشكل عام.
وهذا يشبه إلى حد بعيد التجديد الأول في الأدب العربي الحديث الذي تم في الأغراض والموضوعات الشعرية مع الحفاظ على الأوزان والقوافي المتوارثة عن الخليل بن أحمد التي استنبطها من التراث الشعري القديم.
أما شعراء المرحلة الثانية في الشعر التركي فقد لجأوا إلى الرمز في عهد السلطان عبد الحميد خوفا من البطش وقد أرسل بالعديد منهم إلى المنافي البعيدة ، وفي هذه المرحلة احتدم الجدال بين الشعراء عن أهمية استخدام القافية ومعركة تصفية اللغة بتصفية الشعر من الكلمات والتراكيب العربية والفارسية ،وواضح تأثر أولئك الشعراء الأتراك بما عرفوه من نزعات قومية في أوروبا، ونظرا لتأثرهم بثقافة الأنوار والحريات الأوروبية والفرنسية خاصة ورغبتهم في الاقتداء بالغرب وبناء مدنية حديثة على غراره ،فقد وقر في أذهانهم أن ذلك لا يتم إلا بترك العالم القديم (العربي والفارسي) واطّراح ثقافته ولغته وعدم السماح للكلمات الشرقية (العربية والفارسية) بالولوج إلى مدوناتهم الشعرية ،وهذا الاتجاه المتطرف لقي معارضة شديدة من تيار شعري منافس له وهو أقرب إلى الاعتدال.
ظهرت ملامح القومية الأولى في الشعر التركي في مقالات مجلة "الأقلام الشابة" منذ عام 1910 وأبرز الشعراء المنظرين لهذا الاتجاه ضياء جوك ألب حيث نص على أن اللغة هي أهم دعائم القومية ،وهذا يحيل بدوره على المبدأ الثاني في تصفية اللغة بإبعاد الكلمات غير التركية العربية والفارسية على غرار ما حدث في الإمبراطورية الألمانية التي صفّت اللغة الألمانية من الكلمات الأجنبية الدخيلة وخاصة الفرنسية ، في وجود تيار محافظ وسطي متمسك بالعروض أبرز ممثليه الشاعر أحمد هاشم.
لكن التغيير الحقيقي أو الثورة شكلا ومضمونا على مستوى الشكل والأساليب والرؤى الشعرية تمت بعد التخلي عن الأبجدية العربية والاستعاضة عنها بالأبجدية اللاتينية وقد قاد عملية التغيير هذه شاعران يعد كل منهما مدرسة شعرية مستقلة ناظم حكمت (1902/1963) ونجيب فاضل(1904/1983).
لقد وسع ناظم حكمت آفاق الشعر التركي وغيّر في الشكل والمضمون بإدخال التفعيلة الحرة وهجر "وزن الهجا" القديم الذي يعتمد على تكرار عدد معين من المقاطع الصوتية ، وأسس وفقا لقناعاته اليسارية تيار الواقعية الاجتماعية في الشعر التركي وتأثر به عدد من الشعراء منهم أحمد عارف(1927/1991) ذي النزعة القومية الكردية والذي مزج في شعره بين الأساطير والروايات الشعبية وقد سجن مرات عديدة ،وحسن حسين كوركمازجيل(1927/1984).
إن الذي قام به ناظم حكمت يشبه إلى حد بعيد ثورة الشعر الحديث عندنا التي استهلها بدر شاكر السياب بقصيدة" في السوق القديم" والتي استعاض فيها بالسطر عن البيت والتفعيلة عن الوزن القديم ، وقد أدت هذه الثورة إلى طرح أساليب البلاغة القديمة وترك التقليد والاندماج مع الجماهير في تطلعاتها وتمثل همومها والتفاعل مع الأحداث المعاصرة من أجل التغيير وولادة مجتمع جديد قائم على الحرية والمساواة والعدالة والعلم.
وهذا الاتجاه الجديد عندنا لقي معارضة شديدة من قبل المحافظين على شكل القصيدة العمودية القديمة المتوارثة، والذين اعتبروا الشعر الحديث هدما للموروث وثورة على أعلامه وتنصلا من التاريخ وخيانة للتراث.
أما التيار المحافظ الذي تزعمه نجيب فاضل الملقب بسلطان الشعر فقد عالج في شعره الموضوعات الميتافيزيقية وانتقل بعد ذلك إلى الشعر الديني واستخدم وزن "الهجا " التركي القديم الذي تركه شعراء الثورة والتجديد ،غير أن النقاد يرون أن استخدام نجيب فاضل لهذا الوزن تم بطريقة غير تقليدية بل أمده بروح جديدة.
في مطلع الأربعينيات تشكل تيار شعري على يد الشاعر أورهان ولي (1914/1950)ورفيقيه مليح جودت(1915/2002) وأوكتاي رفعت(1914/2008) وقد أصدروا ديوانا مشتركا "الغريب" عام 1941 وكتبوا مقدمة هي بمثابة البيان الشعري لاتجاههم حيث قاموا بتغييرات جذرية لعل أهمها التحرر من الغنائية المفرطة واستلهام الشعر من الواقع والسخرية من كليشيهات الشعر التقليدي، وقد كتبوا بلغة رجل الشاعر، غير أن بعض النقاد اعترضوا على هذا الديوان ،بينما قدرته طائفة أخرى لمضمونه ونزعته التجديدية شكلا ومضمونا ولقبت أورهان ولي برائد شعر الحداثة.
في عام 1952 تشكلت جماعة "مافي" بمعنى "أزرق" كتيار مضاد لتيار غريب فقد رفضوا وضوح المعاني الشعرية ودعوا إلى تعميقها مستخدمين السينما والرسم في الشعر وتبنوا منهج الفن للفن وقد قام شعرهم على النزعة السياسية إلى جانب تيار مجايل لهم حاول أن تكون لغته الشعرية متخففة من الشعارات السياسية.
لقد كتب المترجمان في المقدمة "من الصعب أن نتناول في هذه المقدمة العاجلة كل الاتجاهات الشعرية التركية، إلا أننا يمكننا أن نقول إن القصيدة التركية قد استجابت إلى دعوات التجديد والابتكار في الأساليب والألفاظ وتقويض المعايير الجمالية الثابتة".
نختم هذه الإطلالة على الشعر التركي الحديث بمقطع شعري من قصيدة "أحرقوا بورسعيد" لناظم حكمت وهو رائد الشعر الحر الذي وسع من آفاقه وتخفف من الجماليات اللغوية والشكلية وسجن مرات عديدة بسبب مواقفه السياسية،وهذا المقطع يحلينا على التزام ناظم حكمت بقضية العدالة ورفض الظلم والطغيان والاستعمار في أي مكان في العالم، والقصيدة كتبها بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956:
كان منصور نحيلا وأسمر
مثل نواة البلح
كان لطيفا
وفي كل مرة يغني نفس الأغنية:
"ياعيني ياحبيبي"!
لقد أحرقوا بورسعيد، وقتلوا منصور
رأيته في الجريدة هذا الصباح
جسدا نحيلا بين القتلى
مثل نواة البلح
"ياعيني ياحبيبي"
بترجمة هذه المنتخبات الشعرية مع تقديم موجز للشعراء المبدعين الأتراك يُسدّ نقص في المكتبة العربية التي ظلت تعاني من عدم التفات المترجمين والنقاد والدارسين إلى الأدب التركي الذي تجمعنا به أواصر مشتركة تاريخية وحضارية وجغرافية، ولعل الثقافة والفن والإبداع أحد أهم الدعائم في التواصل الثقافي والحوار الاستراتيجي إضافة إلى الاقتصاد والمصالح التجارية المشتركة، وهذا التواصل الفني الشعري مع الأدب التركي والنافذة المفتوحة على إبداعه عبر هذا الكتاب المترجم بإتقان همزة وصل بين الشعرين العربي والتركي ومقدمة لمزيد من الترجمات الأدبية التي لا تكتفي بالمشهورين أو المتوجين عالميا مثل أورهان باموق وإليف شافاق.