الجزائر تستأهل افضل...

لن تحلّ حكومة تكنوقراط ايّ مشكلة داخليّة في الجزائر.
الجزائر تبقى أسيرة نظام يرفض تطوير نفسه بل إنّه عاجز عن ذلك
مناورة أخرى يستهدف النظام من ورائها اثبات انّه لم يفلس بعد لا داخليا ولا إقليميا
لو كان النظام قادرا على إعادة تأهيل نفسه لما قاطع الجزائريون الانتخابات والاستفتاء الدستوري

ليس تكليف الرئيس عبدالمجيد تبون لايمن بن عبدالرحمن وزير المال السابق تشكيل الحكومة الجديدة في الجزائر سوى محاولة أخرى لاعادة تأهيل النظام القائم منذ العام 1965 تاريخ استيلاء هواري بومدين على السلطة بعد ثلاثة أعوام من تاريخ الاستقلال.

هل يمكن إعادة تأهيل النظام الجزائري الذي في أساسه المؤسسة العسكرية التي تدور الحكومات في فلكها؟

يطرح مثل هذا السؤال نفسه في ضوء الانتخابات النيابية التي أجريت أخيرا وحل فيها حزب جبهة التحرير الوطني، الحزب الحاكم سابقا، في الطليعة، تلاه حزب حركة مجتمع السلم (حمس) الإسلامي الذي كان يطمح الى لعب دور في تشكيل الحكومة. كان "حمس" يطمح الى ذلك بعد إشارات من تبّون الى احتمال الاستعانة به من اجل تمرير المرحلة الصعبة التي تمرّ فيها الجزائر. اعتبر الحزب أنّ الازمة التي يعيش في ظلّها البلد تفرض لجوء رئيس الجمهوريّة، الذي ليس سوى واجهة للمؤسسة العسكرية، الى الإسلاميين من اجل تغطية المقاطعة الشعبيّة للانتخابات. بلغت نسبة هذه المقاطعة 77 في المئة. يعكس الرقم عمق الازمة التي تمرّ فيها الجزائر، وهي ازمة تعني بين ما تعنيه الحاجة الماسة الى إيجاد مصالحة بين الشعب الجزائري من جهة والنظام القائم من جهة أخرى. الحقيقة ان الحاجة الى اكثر من مصالح. الحاجة الى تغيير في العمق يتناول كلّ المفاهيم القائمة.

استطاعت المؤسسة العسكرية في الفترة الماضية لملمة أوضاعها. بقدرة قادر اعادت، أخيرا، الاعتبار الى وزير الدفاع السابق خالد نزار والى الجنرال محمد مدين (توفيق) الذي كان الرجل القويّ في البلاد طوال سنوات نظرا الى انّه كان مسؤولا عن المخابرات العسكرية من جهة وكان يمتلك ملفّات عن كلّ الشخصيات البارزة في البلد.

سيشكل ايمن بن عبدالرحمن قريبا حكومته. ستكون الحكومة حكومة اختصاصيين بما يوحي بانّ رئيس الجمهوريّة مستعد للسير في نهج جديد ابعد ما يكون عن المحسوبيات وعن الفساد. المؤسف انّ ذلك لن يعني الكثير، لا لشيء سوى لان النظام لا يزال في العمق هو هو. بكلام أوضح، لا تعني حكومة الاختصاصيين ايّ تحوّل جذري يشير الى انّ النظام قادر على القيام بمراجعة شاملة تؤدي الى مواجهة جريئة للأسباب الحقيقية للازمة الجزائرية التي هي ازمة نظام غير قابل لاعادة تأهيل.

هذا كلّ ما في الامر. لو كان النظام قادرا على إعادة تأهيل نفسه لما قاطع الجزائريون الانتخابات التشريعية ولما قاطعوا قبل ذلك الاستفتاء على الدستور ولما قاطعوا أصلا الانتخابات الرئاسيّة التي أوصلت عبد المجيد تبّون، وهو بيروقراطي باهت، الى موقع رئيس الجمهوريّة.

تمتلك الجزائر ثروة انسانيّة في غاية الاهمّية. يتمتّع معظم الديبلوماسيين الجزائريين بمؤهلات عالية في المستوى العالمي. لكنّ الجزائر تبقى في الوقت ذاته أسيرة نظام يرفض تطوير نفسه، بل إنّه عاجز عن ذلك. هذا لا يمنع الاعتراف بانّ لدى النظام مؤهلات مذهلة في مجال اختراع الحلول التي تغنيه عن إعادة النظر في تركيبته والتصالح مع الشعب الجزائري... وتغيير نمط تفكيره القائم على انّ الجزائر قوّة اقليميّة. يعتقد النظام أنّ الجزائر مؤهلة لدور خارج حدودها، بما في ذلك الاعتداء على الجار المغربي عن طريق أداة مثل جبهة "بوليساريو" وقضيّة مفتعلة مثل قضيّة الصحراء...

ما يجري حاليا في الجزائر، عبر تشكيل حكومة اختصاصيين، او حكومة تكنوقراط، مناورة أخرى. يستهدف النظام من هذه المناورة اثبات انّه لم يفلس بعد لا داخليا ولا إقليميا. هذا نظام مفلس لا يمتلك جرأة اعلان افلاسه. يستعيض عن ذلك بتأجيل اعلان الإفلاس. ليس معروفا الى متى يستمر في ذلك، لكنّ الأكيد انّ اللجوء الى بن عبدالرحمن لتشكيل حكومة من غير السياسيين لن يقدّم ولن يؤخر.

ما تبدو الجزائر في حاجة اليه، اقرب الى معجزة اكثر من ايّ شيء آخر. تحتاج الى معجزة للتخلّص من عقدة المغرب اوّلا وتحتاج الى معجزة للاعتراف بانّ على النظام الاهتمام بالجزائريين قبل صرف الأموال على معارك وهميّة خارج حدوده، معارك من نوع شنّ حرب استنزاف على المغرب عن طريق افتعال قضيّة الصحراء التي لم تعد تنطلي على احد.

استطاع العسكر الجزائري التدخل في الوقت المناسب لمنع رجل مقعد مثل عبدالعزيز بوتفليقة من الحصول على ولاية رئاسيّة خامسة في العام 2019. تدخّل رئيس الأركان احمد قايد صالح واجبر بوتفليقة على الاستقالة. اكثر من ذلك، احتجز كبار المحيطين به الذي كانوا يمارسون صلاحيات رئيس الجمهورية، في مقدّمهم سعيد بوتفليقة شقيق الرئيس الجزائري السابق.

هؤلاء العسكر، كانوا لجأوا في العام 1998 الى التهيئة لانتخاب عبدالعزيز بوتفليقة رئيسا للجمهوريّة في نيسان – ابريل 1999، لجأوا اليه بعدما خذلوه قبل عشرين عاما بعد وفاة هواري بومدين أواخر العام 1978. لم يجدوا عيبا وقتذاك في ان تكون خلافة بومدين للضابط الشاذلي بن جديد الذي كان يمتلك اقدمية على زملائه من حملة رتبة عقيد، علما انّه لم يكن يمتلك ايّ مؤهّلات سياسيّة.

كلّما تغيّرت الامور في الجزائر، كلّما تبيّن انّها لم تتغيّر وان كلّ شيء باق على حاله. لن تحلّ حكومة تكنوقراط ايّ مشكلة داخليّة في الجزائر. سيبقى البلد، الذي يمتلك ثروات كبيرة يرفض تطويرها واستثمارها، اسير أسعار النفط والغاز. سيبقى عمليا اسير المؤسّسة العسكريّة التي ترفض التخلي عن السلطة وتكتفي بوضع المدنيين، من نوع عبد المجيد تبّون، في الواجهة.

امّا على الصعيد الخارجي، ستبقى المؤسّسة العسكرية أسيرة وهم القوّة الإقليمية والشعارات الطنانة التي تنادي بحق تقرير المصير للشعوب، فيما تمارس المتاجرة بهذا الحقّ. لن يقود مثل هذا السلوك الجزائر الى أي مكان، خصوصا انّ لغة الأرقام هي التي تتكلّم. قاطع الجزائريون الانتخابات الأخيرة بنسبة 77 في المئة. مثل هذه المقاطعة تعني شيئا واحدا. هذا الشيء هو الحاجة الى نظام جديد متصالح مع الجزائريين اوّلا. هؤلاء انتفضوا على بوتفليقة ليحصلوا على عبدالمجيد تبّون. الجزائر تستأهل افضل من ذلك... ولو بقليل.