النظام الجزائري وفرنسا.. وعقدة المغرب
ليس الموضوعُ موضوعَ زيارة يقوم بها وزير الخارجية الفرنسية جان نويل بارو للجزائر ولقائه الرئيس عبدالمجيد تبون الذي تربطه علاقة قويّة مع الرئيس ايمانويل ماكرون. ليس معروفا هل يتحكم تبون بمفاصل السلطة في الجزائر... أم أن السلطة الحقيقية في مكان آخر، كما كشف الرئيس الفرنسي في تاريخ لم يمرّ عليه الزمن بعد؟
الموضوع، بكل بساطة، هل يستطيع النظام الجزائري التصالح مع الواقع أم لا بعيدا عن عقدة المغرب التي عليه الإعتراف بوجودها في حال كان يريد بالفعل التعاطي مع المستقبل، بما في ذلك مع فرنسا، بدل العيش في الماضي؟
يظلّ تجاوز عقدة المغرب الإمتحان الأول والأخير أمام النظام الجزائري. من دون النجاح في هذا الإمتحان، لن يكون في الجزائر نظام طبيعي يهتمّ بأمور الجزائريين بدل البقاء في أسر سياسة الهروب من الواقع من جهة والأوهام من جهة أخرى.
لم يتردّد أي من الرؤساء الفرنسيين، آخرهم إيمانويل ماكرون، في السعي إلى علاقات أفضل مع الجزائر. فشل كلّ هؤلاء في سعيهم إلى ذلك، نظرا إلى النظام الجزائري يعتاش من العداء لفرنسا، خصوصا من مرحلة الإستعمار الفرنسي الذي استمر طويلا. استمرّ بين 1830 و 1962. كانت لهذا الإستعمار سيئات كثيرة، لكنّ ما لا يستطيع عاقلان تجاهله أنّه صنع الحدود الحديثة للجزائر على حساب دول الجوار، في مقدمها المغرب. اعتقدت فرنسا في خمسينات القرن الماضي وستيناته أن الجزائر ستبقى "فرنسية" إلى أن نجحت الثورة عليه في إنهاء الوجود الإستعماري الفرنسي مع إعلان الإستقلال في 1962.
اللافت في زيارة بارو أنّّها جاءت بعد إتصال هاتفي بين تبون وماكرون. يشير ذلك إلى تطور في التفكير الجزائري. يعكس هذا التطور استقبال وزير الخارجية الفرنسي في الجزائر على الرغم من عدم حصول أي تغيير في موقف باريس من "مغربيّة الصحراء". كان هذا الإعتراف الفرنسي الذي صدر عن الرئيس ماكرون نفسه، صيف العام الماضي في الذكرى الـ25 لصعود الملك محمّد السادس إلى سدة العرش المغربي، بمثابة تحوّل كبير في السياسة الفرنسية وخروجا من الموقف الرمادي لباريس.
من هذا المنطلق، لا يمكن الإستخفاف باستقبال الجزائر للوزير الفرنسي في ظلّ سعي لدى تبون إلى وضع نهاية للتصعيد بين البلدين. هل وجد الرئيس الجزائري الذي لا يمتلك، شئنا أم أبينا، مفاتيح السلطة بمقدار ما أنّه أسير المجموعة العسكرية الحاكمة، أنّ لا مفرّ من التراجع عن محاولة الضغط على فرنسا؟
الأكيد أنّ الموقف الجزائري من موضوع الصحراء المغربيّة لم يتغيّر جذريا. يوجد إصرار على السير عكس توجّه التاريخ. لا تزال لدى المجموعة العسكرية التي تتحكم بالنظام الجزائري أولوية وحيدة. تتمثل هذه الأولوية بمتابعة حرب الإستنزاف التي تشنها على المغرب منذ نصف قرن معتمدة حججا واهية من بينها حق تقرير المصير للشعوب. تريد الجزائر الظهور في مظهر القوة المهيمنة في المنطقة على الرغم من كلّ النكسات التي عانت منها على الصعيد الأفريقي. لو كان النظام الجزائري مهتما حقيقة بالصحراويين، لماذا لا يقيم "جمهورية صحراوية" داخل الجزائر. لا بدّ من ملاحظة إنّ الصحراويين منتشرون على طول شريط يمتد من موريتانيا إلى البحر الأحمر، مرورا بالأراضي الجزائرية!
كلّ ما في الأمر أن النظام الجزائري يطمح إلى السيطرة على الصحراء المغربية استكمالا لسياسة الإستعمار الفرنسي. يريد أن تكون لديه إطلالة على المحيط الأطلسي. لا تهمه حقوق الصحراويين من قريب أو بعيد، مثلما لم تهمّه يوما حقوق الجزائريين أنفسهم. تؤكّد ذلك مخيمات البؤس التي أقامها النظام الجزائري في تندوف حيث تُغسل عقول المراهقين ويجري تدريبهم على السلاح كي يكونوا إرهابيي المستقبل!
المفارقة أن قيامة النظام الجزائري قامت على فرنسا لمجرّد إعترافها بوحدة التراب المغربي. لم يحرك النظام ساكنا عند إعتراف الولايات المتحدة في العام 2020، إبان الولاية الأولى للرئيس دونالد ترامب بـ"مغربيّة الصحراء". لماذا سكت النظام الجزائري عن الولايات المتحدة عندما انحازت إلى الحق واعترفت بـ"مغربية الصحراء"؟ هل فرنسا مكسر عصا للجزائر؟
في الواقع، ثمة تطور لا يمكن الإستهانة به. يفرض هذا التطور على الجزائر التخفيف من حدّة التوتر مع فرنسا واستعادة التعاون المخابراتي بين الجانبين، وهو تعاون أوقفه العسكريون الجزائريون مع إعتراف فرنسا بـ"مغربيّة الصحراء" وبأهمّية الطرح المغربي القائم على "اللامركزية الموسعة" في ظل السيادة المغربية. يبدو أن الجزائر بدأت، مثلها مثل فرنسا، تعاني من عزلة إفريقية في ضوء التطورات التي شهدتها دول قريبة منها مثل مالي وبوركينا فاسو والنيجر (دول الساحل) تحالفت في ما بينها برعاية روسية. تجدّد التوتر بين الجزائر ومالي أخيرا. من الواضح أنّ الجزائر في حاجة إلى فرنسا أكثر من أي وقت كي تستعيد إلتقاط أنفاسها في دول الساحل حيث اضمحل النفوذ الفرنسي ابتداء من العامين 2022 و 2023.
يبقى النظام الجزائري على أوراق يسعى من خلالها إلى ابتزاز فرنسا. من بين هذه الأوراق سد أبواب البلد امام جزائريين "خطرين" مبعدين من فرنسا. كذلك، هناك ورقة الكاتب الفرنسي – الجزائري بوعلام صنصال المسجون في الجزائر. صدر حكم بالسجن خمس سنوات على صنصال الذين دين بتهمة المس بالوحدة الوطنية لمجرد أنّه امتلك شجاعة التطرّق إلى مسألة الحدود بين المغرب والجزائر وما فعله الإستعمار الفرنسي في هذا المجال. إنّها مسألة يرفض النظام الجزائري، بتركيبته العجيبة، السماع بها.
المهمّ في نهاية المطاف أنّ اللامنطق سيد الموقف في كل ما يتعلّق بالعلاقة بين فرنسا والجزائر حيث نظام يرفض الواقع ويصرّ بدل ذلك على المناورة. يستمر النظام الجزائري في المناورة إلى أن يأتي اليوم الذي يتصالح فيه مع الجزائريين أنفسهم ويقتنع بأن الهرب من الواقع يبدأ بالخروج من عقدة المغرب بغض النظر عن القدرة على النجاح في إبتزاز فرنسا أو الفشل في ذلك.