الجلبي.. النفط والموسيقى وكارلوس

كان فاضل الجلبي شخصية علمية نادرة باختصاصه ودراساته، ومدنيته المبكرة.

لا يحلو حديث عن النفط واقتصاده بلا اسم الخبير فاضل جعفر الجلبي (1929-2019) الذي اختص به نظريةً وتطبيقاً لأكثر مِن ستين عاماً. عمل في شَّركة النفط الوطنية العراقية، وعضو مجلس البنك المركزي العِراقي، ووكيل وزارة النِّفط، ونائب وسكرتير عام منظمة الدُّول المصدرة للنِّفط، ومساعد رئيس منظمة الدُّول العربية لتصدير النفط (أوبك)، والأمم المتحدة. كانت الدكتوراه التي حصل عليها من جامعة باريس (1962) في «صناعة النفط العالميّة»، وقبلها درس الحقوق ببغداد، وظل بين الثلاثي: القانون والاقتصاد والنفط. مع هذا عندما يتحدث في التاريخ والفلسفة تنسى أن محدثك أنهى شبابه وكهولته في قضايا النفط.

حصل، والحديث له، أن أمَمَّ العراق شركات النفط كافة (1972)، وكان في اجتماع يترأسه صدام حسين (قُتل 2006)، وبعد انتهاء حديثه قال: مَن لديه سؤال؟! استأذن الجلبي وقال: إن تأميم شركات النفط واستثناء الشركة الفرنسية سيدخلنا في إحراج قانوني، الصحيح أن نؤمم الشِّركات كافة، ثم نُصدر قانوناً خاصاً بالفرنسية. صمت صدام برهةً، وقال: يكن ذلك. في اليوم الثَّاني صدر مرسوم بتعيين الجلبي وكيلاً لوزير النفط (سمعته من الجلبي شخصياً).

غير أنه بعد تبدل الأحوال وتكاثر الأزمات، وحصر المراكز بيد الحزب ثم عصبة الأسرة، صار من الصّعوبة على عالم في فنه، ليس له موقع في الحزب، البقاء قريباً مِن مراكز القرار، بينما عندما كان، والحديث له، سعدون حمادي (ت2007) وزيراً للنِّفط، لا يأخذ الرأي في قضية ما إلا مِن المختص. تألم كثيراً الجلبي عندما رفضت الوزارة، في زمن وزيرها تايه عبدالكريم (ت2018)، مقترحه لتأبين وزير النفط في العهد الملكي، وعضو مجلس الإعمار الخبير النفطي نديم الباجه جي (ت1976) الذي عمل مستشاراً بالإمارات، مما أشعره أن التَّقييم والتكريم لا علاقة له بخدمة الوطن والنَّزاهة والخبرة!

بدأ فاضل الجلبي يسارياً، من دون انتماء لحزب، كان يدفع تبرعاً للحزب الشيوعي العراقي، ولكن تفاجأ بعد ثورة 14 تموز 1958، وقوة الحزب المذكور في الشارع لشهور بعد الثورة، أن يُعتدى عليه وسط نادٍ اجتماعي بتهمة العداء للجمهورية، وقد فهم شباب شيوعيون أن الحديث تحدياً لهم، وبالتالي تحدياً للجمهورية، فذهب وفي وجهه أثر اللكمات إلى الذي كان يدفع له التبرع، فقال له: ألم أكن أدفع لك تبرعاً، فكيف أُعامل هذه المعاملة؟! فأجابه: ذلك زمان وهذا زمان آخر. فمِن يومها أخذ الجلبي يخشى الانقلابات، وعاد يتحدث عن العهد الملكي بشكل آخر. مع ذلك عندما جاء البعثيون (1963) اعتقلوه بتهمة الشّيوعية، دون النَّظر إلى تخصصه النَّادر آنذاك.

في فورة الشباب، لا تترك العواطف مجالاً لفحص المواقف، قال لي: في يوم مِن الأيام كان هو ومجموعة من الأصدقاء الذين تربطهم هواية الموسيقى، يعزفون على شاطئ دجلة، وصادف وجود رئيس الوزراء محمد فاضل الجمالي (ت1998)، يجلس قريباً منهم، ويسمع العزف، فأرسل أحد مرافقيه طالباً مِن الشَّباب الانضمام لهم، إلا أن الجلبي وأصحابه استنكروا ذلك ورفضوا الجلوس مع أحد عتاة «الرَّجعيَّة»؟! واستقبل رئيس الوزراء الرفض بلا رد فعل.

يتحدث باعتزاز عن صلته بالشَّاعرة نازك الملائكة، كانت تجمعهما هواية الموسيقى، ومازال يحتفظ بمجاميعها الشعرية المهداة بقلمها له. يحمل أينما رحل مجاميع السمفونيات العالمية، وفي أواخر أيامه كانت هي سلوته، فالأصدقاء والزّملاء والتلاميذ والمعجبون بعلمه قد تفرقوا، والقليل مَن يبقى صاحب وفاء.

كانت الموسيقى غذاؤه الروحي، ففي أحلك الأوقات حرص على سلامة سمفونيات «باخ»، عندما تعرض وزراء النفط والوفود المرافقة لهم، إلى حادث إرهابي قاده كارلوس مع عصابة «ماري ماينهوف» الألمانيّة، فاحتجزوا في مبنى الاجتماع بفيينا (1975)، واقتيدوا إلى الحافلة ثم إلى المطار تحت تهديد بالقنابل اليدوية، وقصة ذلك رواها في كتابه «بين السياسات والأوهام»، ولما جاء موظف السفارة العراقية ليتعهد بحقائب الوفد العراقي، أوصاه الجلبي بالحفاظ على حقيبة السمفونيات، وسط دهشة الآخرين، فاللحظة كانت حرجة، أن يستقلوا طائرة خاصة بمعية القنابل اليدوية التي يهددهم بها كارلوس وعصابته.

كان فاضل الجلبي شخصية علمية نادرة باختصاصه ودراساته، ومدنيته المبكرة، ظل وضع العِراق يسبب له الأرق، فقال: أليس هناك قرص دواء ينسيني هذه البلاد، وأمنيته أن يقضي بقية أيامه في منزل على دجلة. إلا أنه لم يزر بغداد إلا مرة واحدة، لندوة اقتصادية، ولما رأى الأجواء الدينية تهيمن على أهل السياسة والاقتصاد، قال: ليس للدين علاقة بإدارة الدولة والاقتصاد. فواجهه رئيس الوزراء حينها نوري المالكي برد لم يألفه الجلبي عند أهل السياسة مِن قبل، فعاد واليأس يسرع بشيخوخته، ولم يحصل على تقاعده، مع أنه خدم الدَّولة عقوداً وفي أرفع المناصب الحيويّة، حينها كتب رسالة إلى أكثر مِن مسؤول، وقد أرسلتها أنا، ولكن لا أحداً يرد عليه. ربَّما لأنه رفض التَّعاون، فقد اتصلت به مستشارة الأمن القومي كونداليزا رايس، للتعاون قبل الغزو الأميركي، إلا أنه رفض الطَّلب.

ما أفجعه وأفزعه، بُعيد سقوط النّظام السابق، أن يلتقي مصادفة بأحد أبرز عرابي الغزو، ويقول له: «سقطت دولة السُّنَّة»! بعدها سمعتُ فاضل الجلبي كثيراً ما يُردد بيتي أبي الطَّيب المتنبي (قُتل 354هـ)، كتعبير عن واقع حال المهووس بالعراق: «كفى بكَ داءً أنْ ترَى الموْتَ شافِيَا/وَحَسْبُ المَنَايَا أنْ يكُنّ أمانِيَا»، والآخر: «ذُو العَقْلِ يَشْقَى فِيْ النَّعيم بِعَقْلِهِ/ وأَخُو الجَهَالَةِ، فِيْ الشَّقَاوةِ، يَنْعَمُ».