القيادة التي أبقت ممر هرمز مفتوحا: درس قابوس في هندسة التوازنات

كلما علا صوت التهديد من جهة الخليج، يتوجه نظر دول العالم إلى عُمان. لا لأن لديها أسطولا بحريا يردع، بل لأن لديها ما يفوق ذلك أهمية: رأسمال الثقة

حين تعود طهران إلى تهديداتها القديمة وتلوّح مجددا بورقة إغلاق مضيق هرمز كردّ على الضغوط الدولية، فإنها لا تُشعل فقط فتيلا جيوسياسيا، بل تستدعي من الذاكرة صوتا آخر، هادئا، ومتزنا، قاله السلطان قابوس قبل أكثر من أربعة عقود: إن المضيق ليس ممرا فحسب، بل مسؤولية.

في نوفمبر – تشرين الثاني 1979، والعالم يتخبّط بين الثورة الإيرانية وأزمة الرهائن في طهران، وقف السلطان قابوس، حاكم عُمان الشاب، ليُعلن موقفًا بدا بسيطًا في حينه، لكنه سيثبت لاحقًا أنه مانيفستو للسلام الملاحي والدبلوماسية الوقائية. لم يصرخ السلطان، ولم يهدد أحدًا، بل قال بهدوء مَن يعرف موقعه جيدا "سندافع عن حق جميع السفن المسالمة في العبور"، واضعًا بلاده لا في موقع المُراقِب، ولا في موقع الحَكَم، بل في موقع الضامن الصامت للتوازن.

لم يكن الخطاب استعراضًا للقوة، ولا صيحة حرب، بل كان تعبيرًا دقيقًا عن رؤية حاكم يفهم موقع بلاده الهشّ – والاستثنائي في آن معا. من يتأمل جغرافيا عُمان يرى أنها تُطل على مضيق هرمز وكأنها تحرس بوابة الخليج. لكن السلطان لم يُحوّل هذا الموقع إلى ساحة نفوذ، بل إلى مسؤولية سيادية هادئة.

ومع مرور السنوات، اتضح أن السلطان لم يكن ينحت سياسة ظرفية، بل يؤسس مسارا دبلوماسيا طويل النفس. لم تدخل عُمان في تحالفات صدامية، ولم تلوّح بالأسلحة، لكنها أثبتت حضورها في كل مرة يخفت فيها صوت العقل. ففي أزمة 2011، حين هدّدت إيران بإغلاق مضيق هرمز ردًا على العقوبات الغربية، كانت عُمان تراقب من الشاطئ، لا لتجمع الحطب، بل لتطفئ الشرر قبل أن يصير نارا. أبقت سفنها في المياه بهدوء، وأرسلت رسائلها في صمت، وربما هذا الصمت هو ما أنقذ المضيق.

ثم جاء عام 2019، ومعه سلسلة من الاعتداءات الغامضة على ناقلات نفط، وضجيج غربي يتصاعد كلما علت التوترات. مرة أخرى، رفضت عُمان أن تكون صدى لمَن يصرخ، لكنها أيضا لم تتجاهل الخطر. فتحت قنواتها الخلفية مع طهران وواشنطن، مثلما تفعل الدول التي تعرف أن التهدئة لا تعني التراخي، بل الفطنة والذكاء الدبلوماسي.

اليوم، نستعيد هذا الخطاب ليس من باب النوستالجيا، بل من حاجة راهنة إلى ذلك. فتهديدات البرلمان الإيراني بإغلاق الممر الحيوي الذي يعبر من خلاله أكثر من خُمس تجارة الغاز الطبيعي المسال في العالم، تكشف مجددا هشاشة الرهان العالمي على "استقرار المضيق". كل مرة تُلوّح فيها إيران بالمفتاح، يرتجف العالم، ليس خوفا من التنفيذ الفوري، بل من إمكانية الانزلاق إلى مناوشة صغيرة لا تحتاج سوى إلى شرارة لتُشعل سوق الطاقة، والسياسة الدولية معها.

 

كل مرة يهتز فيها مضيق هرمز، تخرج عُمان لا لتعلن موقفا دراماتيكيا، بل لتُعيد التوازن بحكمة وهدوء

من المفارقات اللافتة أن إيران ذاتها تعتمد على المضيق بقدر اعتماد خصومها عليه. أكثر من 90 في المئة من صادراتها النفطية تمر من هناك، ما يعني أن التهديد ليس سلاحا أحادي التأثير، بل هو سيف ذو حدّين. كلما فكّرت طهران في الضغط، شعرت أولا بتداعياته الممكنة في جسدها الاقتصادي. لذا، فإن التهديد هنا لا يُراد له أن يُنفّذ، بل أن يُباع كقلق، يُسوّق في الأسواق العالمية كخطر محتمل.

من يدفع الثمن، ليس فقط من تمر ناقلاته، بل الاقتصاد العالمي بأسره. فهرمز لا يميّز بين ناقلة قطرية وأخرى سعودية، ولا بين شحنات عُمانية أو صينية. إنه المعبر الذي توحد فيه النزاعات جميع الأطراف على السلام، ولو مؤقتا.

وهنا يظهر الدور العُماني مجددا. ففي كل مرة يهتز فيها المضيق، تخرج عُمان لا لتعلن موقفا دراماتيكيا، بل لتُعيد التوازن بحكمة وهدوء. هكذا كان دورها في أزمة 2011، حين تصاعدت التهديدات بإغلاق المضيق، فاختارت مسقط ألا تنخرط في التحالفات، لكنها ظلت العين الساهرة. وهكذا كان دورها في أزمة 2019، حين ضرب الغموض ناقلات النفط قبالة الفجيرة، فرفضت السلطنة الاندفاع في الاتهامات، لكنها فتحت قنوات خلفية خفّفت من التصعيد.

لقد بنت عُمان سياستها البحرية والدبلوماسية على مبدأ واضح: أن السيادة تُصان بالحضور الهادئ، لا بالصراخ. وقد نقل السلطان هيثم هذا الإرث وأضاف إليه حسّا أكثر تكتيكا يتناسب مع تعقيدات المشهد الجديد. فالمضيق في عهده لم يخرج عن السيطرة رغم التوترات، والوساطات العمانية لم تتراجع، بل تطوّرت. لم تعد السلطنة وسيطا فقط بين طهران والعواصم الغربية، بل باتت الصوت الذي يُستشار قبل أن تنفجر الأزمات.

وبين هذا وذاك، تحوّلت السياسة العُمانية من توجه خارجي إلى ما يشبه هوية وطنية: ألا تردّ على الضجيج بمثله، وألا تلوّح بالقوة رغم امتلاكها وسائل الردع، وألا تغلق المضيق إلا على الخلاف، لا على السفن.

لهذا، كلما علا صوت التهديد من جهة الخليج، يتوجه نظر دول العالم إلى عُمان. لا لأن لديها أسطولا بحريا يردع، بل لأن لديها ما يفوق ذلك أهمية: رأسمال الثقة. ثقة اكتسبتها لأنها لم تُخن مواقفها، ولأنها منذ خطّ السلطان قابوس عبارته الأولى، فهمت أن هذا الممر ليس ملكا لأحد، لكنه مسؤولية الجميع. وأن من يقف على ضفّته، لا بد أن يمتلك أعصابا باردة ورؤية صافية حين يعلو الموج، وحين تهدأ أمواجه.

اليوم، ومع عودة التلويح من طهران بإغلاق المضيق، لا يحتاج العالم فقط إلى موقف دولي حازم، بل إلى استعادة الرؤية المستقبلية التي أعلنها السلطان قابوس قبل 45 عاما. تلك الرؤية التي ترى أن سيادة الدولة لا تعني احتكارا للطريق، وأن القانون الدولي ليس ترفا دبلوماسيا، بل سياجا لحماية العالم من جنون التكتيكات.

لقد قالت عُمان كلمتها مبكرا، بصوت لا يعلو منسوبه، لكنه لا يُنسى "هذا الممرّ لنا جميعا، وسنبقيه مفتوحا… لا خوفا، بل لأن العقل يقول ذلك".

ولعلّ هذا ما يحتاجه العالم اليوم أكثر من أي وقت مضى: بوصلة ممسوكة بيد واثقة، لا حاملات طائرات. ومن أقدر على الإمساك بها من السلطان هيثم بن طارق، الذي يمضي على نهج سلفه بحنكة هادئة، تمارس الدبلوماسية كما ينبغي لها أن تكون: إزالة للعقبات دون صخب، وتثبيت للسلام دون استعراض.