الحرب تترك قلاع درج الليبية وحيدة في مواجهة زحف الصحراء

توشك على الاحتضار

درج (ليبيا) - تحكي نقوش جدران مدينة درج الليبية (غرب) تاريخا طويلا يعود إلى فترة ما قبل الميلاد، وتختزل قصورها بصمات مزيج من حضارات ظلت تعانق قلاعها القديمة التي تئن اليوم تحت وطأة إهمال زحف إليها كثعبان من قلب الصحراء.

تنام المدينة القديمة (550 كم جنوب غربي العاصمة طرابلس) بين أحضان الحمادة الحمراء وهي هضاب صخرية متوسطة الطول تمتلئ بأحواض رملية وسط الصحراء الكبرى الليبية، غربي البلاد، ويعود تاريخها لفترات سابقة في القرن الثامن قبل الميلاد بحسب باحث تاريخي بالمنطقة.

يقول الباحث في التاريخ عدنان عون الله شكرو إن درج شهدت تواجد القرطاجيين الفينيقيين (القرطاجيون هم فينيقيون هاجروا إلى قرطاج في تونس منذ منتصف القرن 8 ق.م تقريبا) والرومان وما يدلل على ذلك هي الآثار المنتشرة في المنطقة.

ويضيف أن المدينة خضعت أيضا لسيطرة الجرمنت (أسلاف الطوارق، الذين استوطنوا جنوب غربي ليبيا، وجزءا من جنوب الجزائر في فترة على الأرجح بين 1000 عام ق.م إلى 1000 بعد الميلاد)، بدليل النقوش الموجودة بالكهوف وعلى المرتفعات الجبلية المحيطة بالمنطقة.

وعلى جدارن المدينة القديمة رسمت نقوش للفن الصخري تعود لآلاف السنين يقدرها سكانها بالعصر الحجري وتحتوي على رسومات لحيوانات وكلها تحاكي الثقافة الجرمنتية والتي كانت منتشرة بجرمة (جنوب) وبعض المدن وهي تعتبر امتداد للعديد من الثقافات في الصحراء الكبرى .

أصل التسمية

كثيرة هي التفسيرات التاريخية حول أصل تسمية مدينة درج ومن بينها أن قبيلة أمازيغية كانت تسكن المنطقة، وتنتمي لقبائل زناتة وهي قبيلة بني أدرج، أما سكان المنطقة اليوم هم عرب باتفاق الروايات المتواترة بالإضافة إلى الطوارق بحسب \" شكرو\".

لكن للطوارق وخاصة كبار السن منهم رواية أخرى إذ يقولون إن درج كانت في السابق تسمى أدري وتعني بلغتهم (الأثر الذي تتركه القوافل) باعتبار أن المنطقة كانت في السابق ممرا لقوافل التجارة من غدامس (غرب) إلى إفريقيا.

ورغم كثرة التفسيرات يرجح شكرو أن يكون أصل التسمية عائدا للقبيلة الأمازيغية المذكورة، لكنه يؤكد أنه لا يمكن الجزم بذلك، بينما هناك تفسيرات أخرى من بينها أن درج تقع على حافة الحماد الحمراء مثل الدرج (السلم)، وهناك تفسيرات عربية تقول بأن أصل التسمية يعود للدرز وتعني مكان لاستراحة الإبل، أما تفسيرها في القاموس العربي فتعني كثرت التدرج وأن المدينة تدرجت في معمارها.

آثار عربية وعثمانية

لمدينة درج ثلاثة أبواب، باب سيدي إبراهيم، وباب المكاسي وباب سيدي بدر، كانت هذه الأبواب تغلق مع هبوط الليل، لتأمينها ضد الغزوات التي كانت تهيمن على المنطقة قديما، نتيجة ما يتوفر بها من خيرات، حتى إن الحجج والوثائق القديمة تصف مزارعها بالجنة، وفق ما يرويه الباحث في التاريخ الليبي.

ويذهب شكرو إلى أن أهم ما يميز المدينة هو طرازها المعماري إذ بنيت على شكل مثلث، وتحتوي على 200 منزل، وبعض القلاع التي كانت تستخدم كمنارة لتنير الطريق للعابرين، باعتبارها كانت طريقا للقوافل التجارية من غدامس إلى قلب إفريقيا وكانت إحدى المراكز الرئيسية لمرور القوافل.

ويقول إن هذا الطراز إسلامي معروف ومنتشر في العديد من الدول العربية والإسلامية، إضافة للمدينة التي تحوي العديد من البيوت والآثار العربية مثل آثار بني هلال وسليم (قبائل عربية هاجرت إلى شمال إفريقيا عام 440 هجريا).

وتبقى الآثار التركية التي تحتضنها المدينة- بحسب شكرو والتي تسمى بالسرايا التركية، شاهدة على الوجود العثماني في المنطقة، وهي عبارة عن مبنى للإدارة العثمانية داخل المدينة القديمة.

الحرب تفترس التاريخ

وحتى سنوات قليلة كانت درج تعرف بمهرجانها السياحي الدولي الذي يقام سنويا احتفاء بها وبتاريخها الضارب في القدم، وكانت تشهد حضورا سياحيا، لعشاق الآثار والتاريخ، لكن أجواء الحرب التي تعم البلاد منذ عام 2011 طغت على ما سواها.

يقول شكرو إن القصر الكبير بالمدينة والذي كان معروفا كمقصد سياحي، بات الآن مهددا بالانهيار، وقبل عام 2011 كان هناك مشروع لإدراج المدينة ضمن المدن التاريخية لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)، وبالفعل تم التوصل للمراحل النهائية لإشراف المنظمة على ترميم \"درج\"، لكن الظروف التي تمر بها ليبيا، أوقفت كل الخطط.

بيد أن هذه الظروف، لم تنل من عزيمة سكان درج (نحو 4 آلاف نسمة)، الذين قرروا مواجهة إهمال الجهات المعنية عبر إقامة عدة احتفالات بسيطة، تهدف لإحياء تاريخ المدينة، أقلها كي يعرف الجيل الجديد موروثه الحضاري والتاريخي، بعد انقطاع المهرجان لسبعة سنوات عجاف، وهي الفعاليات التي يعتبر منظموها أنها مثلث ما يمكن وصفه بقبلة حياة لمدينة توشك على الاحتضار.

وغير بعيد عن المسرح الذي يتوسط المدينة القديمة والذي كان يوماً شاهداً على العديد من الفرق الموسيقية التي تأتي من كل أنحاء ليبيا وخارجها للمشاركة بأعمالها، يتجول الحاج محمود البوصيري ذو 73 عاماً وفي عينيه حنين للماضي القريب، مقارنة بعمر مدينته.

يقول البصيري إن جولته في المدينة القديمة اعتيادية وهي تمثل بالنسبة له تمسكا وارتباطاً وثيقاً بالمدينة القديمة، التي أنشأ فيها ورفاقه زاوية لتدريس القرآن وعلومه.

وعن ذكرياته في مدينة درج التي ولد بها يضيف البوصيري \"ربما تكون أهمها تلك الأيام عندما كنا صغارا نلهو في هذه الشوارع وبما في المدينة من معالم تاريخية وطبيعية ليس فيها لا تصنع ولا زيف\".

ويتابع \"كان هناك ارتباط كبير بين الأطفال في ذلك الوقت، نلتقي كأننا أخوة من أب وأم\"، ويضيف متحسرا \"لكن الآن وفي ظل الواقع الذي نعيشه، تفرق الناس وتفككت العلاقات الاجتماعية حتى على مستوى الأطفال مع الأسف\".

ويلفت أن شوارع المدينة القديمة كانت عادة تسمى بأسماء العائلات، فيما تشتهر المنطقة حاليا بالزراعة والرعي، لكن أهم ما يميزها الفنون الشعبية والصناعات التقليدية المحلية والقائمة على منتجات الجلود، والنخيل والصوف.