الحرب في مناظرة بين آينشتاين وسيغموند فرويد

صفوة أطروحة فرويد هي استحالة القضاء على الدوافع العدوانية وما يمكنُ فعلهُ هو الإبقاء عليها في المستوى الذي لا يحتاجون فيه لتحويلها إلى الحرب.

الحربُ كما يصفها ماركس هي قابلة التاريخ مع أنَّ الحدث الكارثي يعني تدمير المُجتمعات وإهدار الدماء وسقوط الضحايا من كل الفئات، لكن ما شهدته البلدان الأوروبية من الازدهار والتطور والتصالح، وإنشاء كيانات مارواء القومية، كان كل ذلك نتيجة لما مرت به خلال سنوات الحرب، إذ بعدما حلّت المصائب وساد التناحر بين الطوائف وأتباع المذاهب أثناء الحروب الدينية، توصلت الشعوب الغارقة في البؤس إلى قناعة بضرورة فصل الدين عن الشؤون السياسية، كما أن الطغيان الذي زج بكثير من البشر إلى مصائر قاتمة، تمت مُعالجته عبر إيجاد النظام الديمقراطي وتكريس مفهوم المواطنة. وبذلك بدأت مرحلة جديدة سادها خطاب العقل الذي هو أعدل قسمة بين بني البشر. لكن ذلك لم يمنع شبح الحرب من أن يطوف في التاريخ الحديث، وبالتالي تستشرس الغرائز التدميرية من جديد، وتُشنُ حملات تحت يافطة الأيديولوجيا والتفوق العرقي، وصراع الحضارات لتأجيج نيران الحرب وتغذية الكراهية، ما أدى إلى تفاقم الخيبات والنتائج الكارثية، التي منيت بها البشرية.

وما ضاعف من ضحايا الحروب الحديثة هو استخدام الأسلحة المتطورة وهي ثمرة لنمو التفكير العلمي، الأمر الذي وضعَ العلماء والفلاسفة أمام تحدٍ كبير، حيث أصبح الموضوع يؤرقهم وبدأوا بدورهم في دراسة الدوافع وراء قيام الحروب التي يعتبرها فرويد تمثيلاً للغرائز التدميرية في دواخل الإنسان، وما يقولهُ فرويد بشأن هذا الموضوع الشائك حدا بالبرت آينشتاين لاختيار صاحب "قلق الحضارة" ليساعده في البحث عن سؤال لماذا الحرب؟

معرفة مسبقة

كلفت عصبة الأمم المتحدة والمعهد الدولي للتعاون الفكري ألبرت آينشتاين عام 1932 باختيار مشكلة وتحديد من يريده ليقيم معه مناظرة حول المشكلة المطروحة، فيقع اختيار صاحب النظرية النسبية على سيغموند فرويد طرفاً في المناقشة بشأن الحرب، ودوافع استمراريتها في كل الأزمنة، واستفحال مخاطرها، مع تطور الحضارة. ومن الملاحظ أنَّ توقيت المناقشة جاء بعد الحرب العالمية الأولى متزامناً مع البوادر التي كانت تلوح بحرب جديدة. واللافت في رسالة آينشتاين إلى فرويد هو شدة إعجاب العالم الفيزيائي بأطروحات مؤلف "تفسير الأحلام" مشيراً إلى قدرة الأخير على اكتشاف العلاقة القائمة بين الغرائز العدوانية وغرائز الحب والشهوة في النفس البشرية. أكثر من ذلك فبرأي ألبرت آينشتاين أنَّ الهدف الذي يشتغلُ عليه فرويد يجمعهُ بقادة الفكر والمصلحين الكبار، إذ يحترمُ إخلاصه العميق ومسعاه لتحرير الإنسان من شرور الحرب. متسائلاً عن جدارة الاعتراف بهؤلاء المفكرين قادةً روحيين وملهمين على المستوى العالمي، ويذكر في هذا السياق أسماء يسوع وغوته وكانط. ويُقر آينشتاين بأنَّ مجال النشاط البشري الأكثر أهميةً بالنسبة لمصير الأمم بيد السياسيين غير المسؤولين.

الأهم في هذا الإطار هو إشارة آينشتاين إلى تضاؤل تأثير النخبة المثقفة بفعل انقسامهم إلى زمر وفرق مُشتتة، ما يحول دون تعاون أعضائها في البحث عن حل مشكلات العالم.

ويضيفُ آينشتاين مؤكداً على أن تبادل الآراء وإقامة التواصل المستمر بين المثقفين عامل لدعم القيمة الأخلاقية في المحاولات الهادفة لحل المشاكل السياسية. كما أن إيجاد قنوات التواصل بين المُثقفين ومشاركتهم لإرساء مبادئ التعايش، يدفع للتفكير في الاستفادة من دور الجماعات الدينية للنضال ضد الحرب. طبعاً أن ما يُفهم من فحوى رسالة آينشتاين هو ضرورة مساندة المؤسسة التي أنشئت لحماية السلام وقيام رابطة روحية وفكرية، تستمدُ قوتها مما أنجزه أعضاؤها في المجال العلمي والفكري. وتصبحُ طرفاً مؤثراً في القرارات المصيرية.

وفي غياب هذه السلطة المعنوية يستفردُ رجالُ السياسةِ بتنظيم مشاعر الجماهير وتحريكها وتحويلها إلى أداة. يتساءلُ العالمُ الألماني عن الوسائل التي تنجح في إلهاب حماسة الجماهير ليضحوا بحياتهم؟ بنظره أنَّ النزعة التدميرية دفينةُ ولا تظهر إلا في ظروف غير عادية، كما أن اكتفاء المثقفين بما هو متداول في المطبوعات لفهم الحقائق لا يُكسبهم مناعة ضد الميل التدميري والاندماج مع التيار العام. ومن الواضح أنَّ آينشتاين كان مُتابعاً لأعمال فرويد ويخبرهُ بأنَّ أولئك الذين لا يؤمنون بنظرياته يجدون صعوبة في مُقاومة أفكاره.

الحقيقة

قبل أن يُقدمَ رأيه حول الموضوع ويحللَ تركيبة النفس البشرية والغرائز التدميرية الثاوية في طواياها، يعبرُ فرويد عن شكه بأنَّ يكون رده مشجعاً بالنسبة للجهة المتعهدة بمشروع المناظرة، ويتوقعُ أنَّه لن تنشر ورقته لأنَّه طوال حياته أخبر الناس بالحقائق التي من الصعب ابتلاعها، وقد أصبح كبيراً في السنِ بالتأكيد ولا يريدُ التورط في التدليس. وعندما يدون رسالتهُ لآينشتاين شاكراً إياه على الدعوة والمشاركة في النقاش. يقولُ له بأنَّه كان ينتظرُ تحديد مشكلة أخرى، يجدُ كل من عالم النفس والفيزيائي أرضية مشتركة لتناولها، مع الاحتفاظ بزاوية النظر الخاصة، ومن ثُمَّ يبدي تفهمه لما اختاره الفيزيائي مع أنَّه ليس ضمن اختصاصه العلمي، إذ فضلَ هذا الموضوع بصفته محباً للخير. كما أنَّ المطلوب منه باعتباره عالماً للنفس هو مقاربة المُشكلة من المُنظور النفسي، لافتاً إلى ما قدمه في هذا المجال وما ورد في مؤلفاته عن العنف، غير أنَّ ذلك لا يعني امتناعه من معالجة المشكلة في إطار المُناظرة، حيثُ يؤكد على وجود العلاقة المتينة بين الحق والعنف، وأن ليس أحدهما نقيضاً للآخر، حسب الاعتقاد الشائع. ويمضي فرويد أبعد حين يرفض الاستثناء الإنساني في تسوية صراعات المصالح، ولم يجنب التفوق العقلي الكائن الإنساني من الوقوع في شرك العنف، حاله في ذلك حال الكائنات الحيوانية، كما أنَّ الغاية من الحرب بعد أن حلَّ التفوق الفكري مكان القوة العضلية لم تتبدل، وهي إرغام أحد طرفي الصراع الآخر على التخلي عن مطالبه واعتراضه عقب تحطيم إرادته، وبذلك يحقق المنتصر هدفين، الأول غياب من يعارضه، ثانيا ردع الآخرين من أن يقتفوا أثر خطوات المهزوم.

ما يتوقف عنده فرويدُ بالاهتمام هو وجود غريزة البقاء والاتحاد وما يناقضها، أي غريزة التدمير والقتل. ومن الصعب الفصل بين غريزتين أو وجود الحياة بمعزل عن إحداهما.

اتحاد الضعفاء

ويرى فرويد في القانون اتحاد قوة الضعفاء، الذين هزموا عنف الفرد. وما ينجمُ عن ذلك هو سيادة قوة المجتمع التي تُسمى بالقانون. وما يهددُ السلم الاجتماعي بالاستمرار أن أفراد المجتمع غير مُتكافئين في القوة، أضف إلى ذلك ما يتوخاه الحكام من وضع أنفسهم فوق المحظورات والقوانين. وهذه الرغبة تقابلها محاولات الجماعة لكسب مزيد من القوةِ وتعديل القوانين بما يلائِمُ التحولات. عليه فإنَّ الحرب الأهلية تندلعُ برأي فرويد جراء تنازع بين إرادة الجماعة والحاكم.أما بشأن الغزوات الكبيرة، فلا يمكن إطلاق أحكام مطلقة عليها، فبعضها كانت عاقبتها شراً، في ما ساهمت بعض الحملات في سن القوانين واستتباب السلام وحل الصراعات، إذ منحت غزوات الرومان وفق تحليل فرويد الدول المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط السلام الروماني. ويستخلصُ مُكتشفَ ُعقدة أوديب مما ذكر آنفاً، أنَّ الجنس البشري قايض الحروب الصغيرة التي لا نهاية لها بحروب نادرة ذات نطاق أوسع. ما يتوقف عنده فرويدُ بالاهتمام هو وجود غريزة البقاء والاتحاد وما يناقضها، أي غريزة التدمير والقتل. ومن الصعب الفصل بين غريزتين أو وجود الحياة بمعزل عن إحداهما. إذن فإن صفوة أطروحة فرويد هو استحالة القضاء على الدوافع العدوانية وما يمكنُ فعلهُ هو الإبقاء عليها في المستوى الذي لا يحتاجون فيه لتحويلها إلى الحرب. ونحن بصدد الحديث عن محتوى مناظرةٍ بين أكثر شخصيتين تأثيرا صدرت ترجمتها العربية بطبعة مشتركة منشورات تكوين الكوين ودار الرافدين بيروت، ومن الضروري الإشارة الى المقدمة التي كتبها نادر كاظم، حيثُ يفصل الأخير في متابعة ظاهرة الحرب على ضوء آراء والفلاسفة والمؤرخين والعسكريين ويفتتحُ حديثه بعبارة جورج ويلز "إذا لم نقضِ على الحرب فإنَّ الحرب تقضي علينا" ومن ثم يقتبسُ كلامَ كلاوزفيتز عن إمكانية قيام الحرب بين شعوب أكثر تمدناً.

ويوردُ رأي ثوسيديدس عن دور تنامي القوة في اشتعال نار الحرب. ونقفلُ قوس هذه المداخلة بما قاله فرويد عن الهوية بوصفها اسما حركياً للقوة الغاشمة التي تزيدُ شحنة الكراهية لدى الإنسان وبالتالي يكون مستعداً للحرب *كاتب عراقي