الحريات الفردية والمساواة تفجران جدلا قانونيا ودينيا في تونس

القوى العلمانية ترى في تقرير الحريات الفردية انتصارا لهوية الدولة المدنية وتنزيل المسألة ضمن التشريعات بما يدعم التجربة الديمقراطية.
إلغاء عقوبة الإعدام والحق في الحياة من أبرز مقترحات التقرير
اللجنة تقترح مشروع قانون يتعلق بالقضاء على التمييز بين الرجل والمرأة

تونس ـ فجّر تقرير حول الحريات الفردية تضمن حزمة من المقترحات منها إلغاء الإعدام ومنع استخدام حرية التعبير للدعوة إلى الكراهية وإلغاء التمييز في الجنسية وفي الميراث وعدم تجريم المثلية الجنسية جدلا حادا في تونس بين العلمانيين والإسلاميين.

وفيما رأت القوى العلمانية في التقرير انتصارا لهوية الدولة المدنية وتنزيل مسألة الحريات الفردية ضمن التشريعات بما يدعم التجربة الديمقراطية لم ير فيه الإسلاميون سوى دعوة إلى المساس بالشريعة الإسلامية واستهدافا لما أجمع عليه الفقهاء.

ومقترحات تقرير الحريات الفردية هو صياغة أولى تم طرحها للنقاش بين مختلف الفاعلين القانونيين والسياسيين ونشطاء المجتمع المدني للحسم فيها في مرحلة أولى على أن يتم تحويلها في مرحلة ثانية إلى مشاريع قوانين تطرح على البرلمان لتمريرها ولتكتسي صبغتها الدستورية.

ولجنة الحريات الفردية والمساواة تم إنشاؤها في 13 اب/اغسطس من العام 2014 وعهد إليها بالقيام بعملية مسح لمختلف من قبل الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي وتم تكليفها بتقديم إصلاحات تشريعية تتعلق بالحريات الفردية بناء على مرجعية الدستور المدني.

وتتكون اللجنة من 9 شخصيات يعدون من كبار المفكرين التونسيين مثل عبدالمجيد الشرفي ونشطاء المجتمع المدني مثل صلاح الدين الجورشي وبشرى بلحاج حميدة ودرة بوشوشة وأخصائيون في القانون الدستوري مثل سليم اللغماني وأخصائيون في الفكر الإسلامي والشريعة وأصول الدين مثل إقبال الغربي.

وخلال السنوات الأربع الماضية تولت اللجنة القيام بعملية مسح للقوانين التي تمس الحريات الفردية والمساواة والتي تتعارض مع الدستور وشرعة حقوق الإنسان الدولية قبل أن تعرض مقترحاتها على الرئيس التونسي ا في بداية شهر يونيو/حزيران الحالي.

وانتهجت اللجنة طريقة عمل تشاركية إذ خضعت مقترحاتها إلى استشارة عديد القوى السياسية والقوى المدنية والنشطاء في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان ونخبة من الباحثين في علم الاجتماع والعلوم السياسية وأساتذة جامعة الزيتونة.

مقترحات

تصدر إلغاء عقوبة الإعدام والحق في الحياة أولى مقترحات التقرير إذ تم تقديم حلين إثنين أولهما يقضي بإلغاء العقوبة تماما في إطار سياقات تمشي الدول التي ألغت العقوبة بشأن مختلف الجرائم وهي دول تمثل وفق ما جاء في التقرير ثلث دول العالم تماشيا مع قرار منظمة الأمم المتحدة عدد 187 ـ 71 الذي صوتت عليه تونس.

أما الحل الثاني فهو يتمثل في التضييق أكثر ما يمكن على الأحكام بالإعدام طبقا للفصل 22 من الدستور الذي ينص على أن "الحق في الحياة مقدس لا يجوز المساس به إلا في حالات قصوى يضبطها القانون". 

وتطرقت اللجنة إلى التداعيات السلبية لحرية الرأي والتعبير مقترحة وضع حد أساسي لها بما من شأنه أن يحول دون استخدامها للدعوة إلى الكراهية أو التمييز أو العنف.

وفي إطار حماية الحق في الحياة الخاصة تضمن التقرير مقترحا يقضي بعدم تجريم المثلية الجنسية ووضع تشريعات أو وضع أطر قانونية لحمايتها مثل سرية الجلسات القضائية وحجب المعطيات الشخصية لأفراد من الأحكام القضائية.

وشدد التقرير على أن عددا من القوانين مازالت تشكل اعتداء على حرمة الحياة الخاصة للأفراد وأشارت إلى أن القانون الجزائي ينص على تجريم اللواط والمساحقة، ملاحظة أنه لا دخل لا للمجتمع ولا للدولة في الحياة الجنسية بين الراشدين. 

كما اقترحت اللجنة مشروع قانون يتعلق بالقضاء على أي شكل من أشكال التمييز بين الرجل والمرأة والأطفال من خلال إلغاء التمييز في الجنسية الذي يتضمنه القانون التونسي وإقرار حق أي طفل مولود بتونس في الحصول على الجنسية التونسية إذا كانت أمه وأحد جديه للأم مولودين بها.

وتضمن التقرير أيضا مقترحا يقضي بالاعتراف للأجنبي الذي يتزوج من تونسية حق الحصول على الجنسية وإرساء نظام موحد لضم الأبناء للجنسية التونسية المكتسبة من أحد الوالدين إضافة إلى إعادة تنظيم مهر الزواج لما يستبطن من مساس بكرامة للمرأة إضافة إلى إلغاء نظام رئاسة الزوج للعائلة والمساواة بين الواجبات والحقوق.

وشكل إلغاء التمييز في المواريث إحدى أهم مقترحات التقرير الذي وصفه الخبراء بأنه "ثورة قانونية" بالنسبة للبنت في حال وجود ابن وضمان المساواة بينهما.

وأقر أعضاء اللجنة في تصريحات لوسائل الإعلام بان دستور 2014 ساعدهم كثيرا في صياغة المقترحات وخاصة وأنه ينص على حرية الضمير والمعتقد.

ترحيب من قبل القوى المدنية

لاقت مختلف مقترحات التقرير ترحيبا واسعا لدى القوى المدنية والعلمانية ووصفوها بالثورة القانونية التي من شأنها أن تدعم دولة المواطنة المدنية وتزيح أي شكل من أشكال التضييق أو المساس بحقوق الأفراد وحماية حياتهم الخاصة.

وأكدت 34 منظمة وجمعية منضوية صلب "التحالف المدني من أجل الحريات الفردية" دعمها لما تضمنه لمختلف مقترحات التقرير واصفة إياها بـ"مقترحات تشريعية لافتة ومعززة للديمقراطية وللدولة المدنية".

وشددت تلك القوى المدنية على أنها"تدعم تلك المقترحات وتتبناها خاصة تلك المتعلقة بالمساواة التامة والفعلية بين النساء والرجال والولاية على الأطفال ومنح الجنسية لأزواج التونسيات والمساواة التامة والفعلية بين كل الأطفال بمن فيهم المولودين خارج إطار الزواج".

ودعا التحالف المدني الرئيس التونسي إلى"تكريس التطلّعات التي حفّزها تقرير اللجنة وذلك بمتابعة توصياته وتقديم مبادرات تشريعية مطابقة لكونية وترابط وشمولية وعدم تجزئة حقوق الإنسان ومجسّدة للمساواة التامة والفعلية".

وحث الائتلاف البرلمان والقوى السياسية والسلطة القضائية على التحرّك نحو تكريس توصيات اللجنة وتجسيد الخطوات الضرورية لضمان دولة مدنية ديمقراطية ومتضامنة كما دعا الحكومة وسلطات تنفيذ القانون والمؤسسات والمرافق العمومية الى اتخاذ التدابير التي تهيئ تفعيل توجّهات تقرير اللجنة.

ومن بين الجمعيات الموقعة على البيان "الجمعية التونسية للدفاع عن الحقوق الفرديةَ" و "الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات" و"الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان" و"شبكة دستورنا" و "الشبكة الاورومتوسطية للحقوق" و "الفيدراليّة الدوليّة لحقوق الإنسان" و"محامون بدون حدود" و"المنظمة الدولية لمناهضة التعذيب".

وفي أعقاب تسلم قائد السبسي التقرير خلال الأسابيع الماضية من اللجنة نظمت نحو 70 منظمة وجمعية نسوية ناشطة في مجال الدفاع عن حقوق المرأة تظاهرة حاشدة أمام مقر البرلمان  في مسعى إلى الضغط على اللجنة التي شكلها السبسي للتسريع في تحويل المقترحات إلى مشاريع قوانين والتعجيل بالمصادقة عليها.

ورفع المتظاهرون شعار "دولة مدنية وما هو للرجل من حرية هو أيضا للمرأة" مطالبات بالمساواة التامة في مختلف المجالات بما فيها المساواة في الميرراث..

رفض إسلاموي 

بقدر ما لقيت المقترحات من صدر إيجابي لدى القوى السياسية والمدنية ونشطاء حقوق الإنسان بقد ما أثار جدل قانوني وديني في ظل رفض الإسلاميين لغالبية المقترحات معتبريها مخالفة للشريعة الإسلامية ولا تنسجم مع "إجماع اجتهادات فقهاء المذاهب السنية الأربعة".

وسارع نورالدين الخادمي القيادي في حركة النهضة ووزير الشؤون الدينية الأسبق إلى دعوة عثمان بطيخ مفتي الديار التونسية إلى عدم التزام الصمت إزاء مقترحات اللجنة خاصة بشأن المساواة في الإرث وإلغاء نظام قوامة الرجل على المرأة وإلغاء الإعدام وعدم تجريم المثلية الجنسية.

وطالب الخادمي بطيخ بإصدار فتوى تحرم المقترحات معتبرا إياها بالمبادرة التي تشرع للفتنة بين التونسيين ومشددا على أنها معادية للإسلام ومناقضة لأحكام القرآن.

وقال لوسائل الإعلام المحلية إن اللجنة لم أعدت التقرير دون إشراك أساتذة الزيتونة مضيفا أنه سيقدم مبادرات منها مبادرة تقضي بحماية المقدسات وأخرى تقضي بمدونة الأسرة وفق الشرع والدستور.

ومن جهتها اعتبرت فاطمة شقوت أستاذة بالمعهد العالي للحضارة الإسلامية أن ما تضمنه التقرير من مقترحات خطيرة فيه تطاول على القرآن الكريم واصفة إياه بـ"تقرير المساواة بين الفضيلة والرذيلة".

غير أن المفكر عبدالمجيد الشرفي صرح بأن اللجنة أجرت لقاءات مع الزيتونيين لكنها لم تلمس أي رأي اجتهادي مضيفا أن كل ما قد موه هو "اجترار للإرث الفقهي" ملاحظا أن اللجنة راعت المواقف الدينية من مسألة الحريات الفردية.

وقال الشرفي إن مهمة اللجنة لا تتمثل في الاجتهاد الفقهي وإنما تتمثل في تقديم مبادرات من شأنها أن تعزز الحريات الفردية وتجربة المسار التحديثي التي انطلقت في تونس منذ منتصف القرن التاسع عشر.

ومن جهته قال صلاح الدين الجورشي معلقا على رفض الإسلاميين لمقترحات اللجنة خاصة بشأن عدم تجريم المثلية الجنسية "المثلية في تونس موجودة ولا يمكن إنكارها وإن كل ما قدمته اللجنة هو نوع من التعامل مع الواقع بكل جرأة وموضوعية".

وشدد الجورشي على أن اللجنة أخذت بعين الاعتبار "مبادئ حقوق الإنسان الكونية وخصوصية المجتمع المسلم" قائلا "حاولنا صياغة مقترحات غير صادمة، ورأينا من المهم تجنب الاستعراض في مقترحاتنا". وقال الجورشي إن "الحرية يجب أن لا تضايق الآخرين لخلق التعايش وترسيخ قيمة التسامح في المجتمع".

وفي تعليقه على ردود فعل الخادمي شدد سليم اللغماني عضو اللجنة أن "اللجنة قدمت تقريرا نهائيا وهي ليست مستعدة لا للتعديلات ولا للمراجعات" ملاحظا أن "ما يهمنا هو ردود فعل القوى المدنية ملاحظا أن القرار بيد قائد السبسي.

وشدد اللغماني على أن الاسلاميين الذين يعارضون التقرير لا يميزون بين الشريعة وهي غير موجودة في الدستور وإما كل ما يحتويه الدستور هي تعاليم الإسلام لافتا إلى أن هناك فرق شاسع بين الفقه والشريعة التي هي منظومة قانونية نابعة عن نص قرأني وهناك خلط بين الشريعة والفقه الذي هو اجتهاد بشري في ظروف معينة.

وأضاف أنه بناء على قرار رئيس الدولة سيتم تحويل المقترحات إلى مشاريع قوانين للمصادقة عليها من قبل البرلمان لتتحول إلى قواعد قانونية غير أنه لفت بالمقابل إلى أن الطريق مازالت طويلة في ظل الجدل الذي فجرته مقترحات التقرير.

وقالت بشرى بالحاج حميدة رئيسة اللجنة أن الجنة قدمت اقتراحات بديلة لكل القوانين التي من شأنها ألا تضمن المساواة بين المواطنين مشددة على أن التقرير هو ثورة فكرية وثقافية وفرصة ذهبية مطروحة للنقاش بين المواطنين لترسيخ مقومات الدولة المدنية. وبدا لافتا أن راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة لازم الصمت المطبق تجاه التقرير ولم يصدر عنه أي تصريح أو تعليق، صمت فسره المراقبون بأنه مدروس نظرا إلى أن الرجل يخشى أن يظهر في صورة المناهض للحقوق الفردية والمساواة.ويتوقع مراقبون أن يتسلل الجدل من الطبقة الفكرية والسياسية ونشطاء المجتمع المدني إلى داخل الأسر التونسية باعتبار حساسية بعض المقترحات في علاقتها بمنظومة القيم الموروثة سواء تعلق الأمر بالمواريث أو بعدم تجريم المثلية الجنسية أو غيرها.