الحلقة المفقودة في "جبل الزمرد"

منصورة عزالدين تتحركُ في مساحة روايتها شخصيات مستعارة من حكايات ألف ليلة وليلة والمدونات التراثية.
مفردة الزمرد تندس إلى معظم أجزاء النص بحيثُ تكون بمثابة لازمةٍ في بناء الرواية
مفردة "الزمرد" نواةُ تسحبُ إلى دائرتها مكونات القصة التي يتماهى راويها مع الشخصيات التي تشاركها في حزمات سردية متناسقة. 
ماركيز: إني أهتم بما لا يهتمُ به المؤرخُ.

كتابةُ التاريخ خارج السياقات الرسمية والنبشُ فيما أهمله الخطاب المهمينُ، واقتناص  هباء المعنى في المعطيات المتوفرة بشأنِ حيثيات الوقائع التاريخية دافعُ وراء نشوء الروايات التي تناقش الشخصيات والأحداث المؤثرة في التاريخ. 
يقولُ ماركيز "إني أهتم بما لا يهتمُ به المؤرخُ" هذا إضافة إلى أنَّ إسقاط ما وقع في الماضي على اللحظة الراهنة قد يكون غرضاً في توظيف التاريخ في إطار الرواية وبهذا يفتحُ مجالاً للتأويل، فبالتالي يكتسبُ القاريءُ دوراً مهماً في فك شفيرة النص. 
هذا فيما يتعلقُ بموقع القاريء في الرواية التاريخية ماذا عن وظيفته في السرديات المستوحية من الأساطير والرموز أو الأعمال التي تقومُ على بنية تناظرية مع المدونات والملاحم الأدبية المورثة ؟
طبعاً هنا يتضاعفُ دورُ المتلقي في ملء الفضاءات البيضاء لأنَّ ما يقولهُ النص اللاحقُ لا يبدو إلا في شكل مربعات غير مكتملة أو غابة متعددة الدروب على حد قول إمبرتو إيكو.
وتسلك الكاتبة المصرية منصورة عزالدين  هذا المنحى في روايتها "جبل الزمرد" إذ تتحركُ في مساحتها شخصيات مستعارة من حكايات ألف ليلة وليلة والمدونات التراثية، كما أنَّ المكان أيضاً له بعدُ أسطوري ويوحي بذلك العنوان الذي يتواصل مع محتويات النص والإرساليات التي تصاحبه وتندسُ مفردة الزمرد إلى معظم أجزاء النص بحيثُ تكون بمثابة لازمةٍ في بناء الرواية وهي نواةُ تسحبُ إلى دائرتها مكونات القصة التي يتماهى راويها مع الشخصيات التي تشاركها في حزمات سردية متناسقة. 

منصورة عزالدين ترسمُ برنامجها السردي على لعبة الفراغات بحيثُ يكون المجال متاحاً لمزيد من التخييل أو بناء قصة جديدة بناءً على الثغرات الموجودة في لحمة النص

وما يجمعُ بين شخصيات هذا النص الروائي ليس الحاضنة المكانية أو الحنين إلى زمنٍ عابر فحسب إنما الذكرى المشبوبة بالأسى كما هو الحال بالنسبة لشيرويت التي كان  اعترافها على مسؤلتها الحزبية يوخز ضميرها، كما أن نادية المقيمة في كندا يمتزجُ حنينها إلى الطفولة بالخوف من الموت.
فنتازيا
تقولُ سميون دوبوفوار إنَّ الكتابة الإبداعية تبدأُ في اللحظات التي لا يعودُ فيها الواقعُ أمراً مسلماً به. يفهمُ من منطوقُ هذه العبارة بأنَّ كل عملية إبداعية تعبرُ عن رغبة لإنطلاق نحو عوالم مغلفة بغلال فنتازي، لذا يعتقدُ إمبرتو إيكو بأنَّ مفهوم الحس السليم لا يفيد لقراءة النص التخييلي. إذاً تنشأُ علاقةُ جديدة بين الأشياء في الروايات التي تعمتدُ على بنية فنتازية. 
ومن المعلوم بأنَّ الميثولوجيا هي أساس المرويات العجائبية، من هنا تقيمُ رواية "جبل الزمرد" علاقةً تناصية على مستوى الشكل والمضمون مع الموروث الأدبي، وذلك ما يضفي عليها الغموضَ. إذ يفتتحُ النصُ بعباراتٍ مقتبسة تنبيء بما يسودُ من الغرائبية في فضاء الرواية. كما أنَّ ما تسردُه "بستان" في الحلقة الأولى بضمير المتكلم والإشارة إلى أسمائها المتعددة يكونُ موجهاً للتعامل مع المسرود الروائي بإعتباره مادةً تعومُ فيها الألغازُ والرموز، الأمر الذي يتطلبُ البحثَ عن آلية يتم من خلالها إدراك شكل التواصل بين الوحدات التي تبدأُ بعناوين موحية بالحدث. 
إذاً تكتنزُ العتبات الداخلية بمؤشرات دالة على مسار القصة الفرعية. فمفردة "الباحث عن الليل" التي تعنون أحد أقسام الرواية لا يتضحُ مدلولها إلا بمتابعة شخصية إيليا الذي غادر مدينة الشمس باحثاً عن الليل وما أن يعودَ إلى موطنه حتى يفقد بصره والحال هذه يعتكفُ في كوخه، وتصبحُ المخيلةُ بديلاً عن رؤية العين. ومن ثُمَّ يسردُ له بحار عجوز أسرار حجر الجنون وهو ما أن يقعَ عليه نظر المبصر حتى يصاب بنوبة الضحك قبل أن يموت، أما إذا حملق عليه العميان فيستردُ بصره. 
يرحلُ إيليا إلى جبل المغناطيس، وما يسمعه هناك ليس إلا أصواتاً غير مألوفة. يحلُ زائرُ جديد على الجبل وهو ينجو من بين الركاب الذين تتحطم سفينتهم. هنا يلجأُ الراوي إلى تلخيص قصة إيليا عندما يشرعُ الأخير بسرد وقائع حياته للناجي فيما يقتضي الموقف بأنَّ يقص الزائر الجديد جانبا من حياته لصديقه في الجبل. وهو لم يعرف أبويه وتكفلت الجدة برعايته. والأهم فيما يذكره الناجي هو الحلم الذي يراوده بالوصول إلى جبل الزمرد، ولا يسمع عن هذا المكان إلا على لسان نورز الصائغ. 

novel
الفقدان والرحلة 

تتوالي الأحداثُ متسلسلة إلى أنَّ ينقله طائر الرخ إلى جبل القاف، وهناك يكسبُ ثقة الملك ياقوت بعدما تنطقُ ابنته زمرد من جديد وينسب فضل هذا الحدث إلى وجود الغريب. وهذا الوضع يؤسس لرحلة أخرى إلى جبل المغناطيس، قبل ذلك يستأنسُ الراعي ببلوقيا ويسمع  الأخير منهُ قصة أحد ملوك من بني إسرائيل. ورحلة ابنه للقاء نبي الإسلام إلى أن يبلغ بأن زمن نبي الإسلام هو آخر الزمان. هكذا يتبدلُ موقع الشخصيات من الراوي إلى المروي له وهذا النسق تجده في ألف ليلة وليلة وديكاميرون.
بنية المدونة
الرحلة هي ما تنهضُ عليه مفاصل الرواية، وذلك بدافع البحث عن المفقود أو صناعة المصير خارج بيئة المنشأ مثلما تخطط هدير لذلك كما أنَّ رحلة زمردة برفقة بلوقيا كانت من أجل إكتساب ما يمكنها من معرفة مصير أمها "نورسين" والإنتصار على ملكة الحيات، ورحل إيليا إلى جبل المغناطيس لمعانقة النور من جديد. وبدورها تقوم بستان البحر برحلة للقاء تاجر المخطومات الذي يمتلك ما يعينها على متابعة تفاصيل نزوح أسلافها وتيههم، زد إلى ما أسلف ذكره فإنَّ المدونةَ ضلع آخر في منظومة النص إذ تسجلُ بستان البحر قصة أسرة هدير ونشأة الأخيرة إلى أن تستقر عند جدتها بعد إنفصال الوالدين، كما أنَّ مروج زوجة الراعي تدون ما تشاهده في جبل القاف، وتحتفظُ بأوراق جدها السرية التي تحتوى على نبوءات حول ما يقع في الجبل. وهذا إستباق لما يتابعه المتلقي لاحقاً.
كما تقرأُ زمردة ما سطره إيليا في وحدته وبذلك تتشعبُ الأنفاق السردية في الرواية، زيادة على هذا فإنَّ النص لا ينفصل أيضاً عن بنية الحلم كما يقعُ في بعض مقاطعه على مدار الأجواء الكافكاوية، إذ بعدما ينسفُ الجبل وينزحُ سكانه إلى العالم ينتحر عدد من هؤلاء شنقاً على أشجار مانجو كما ينتحر المتشرد الذي يقضي سحابة نهاره في الميدان، وتنتحر بروج، وبهذا تتشابه المصائر على الرغم من إختلاف الأزمنة، وتعاني كل من هدير وزمردة من فقدان الأم، وتبحثُ نادية عن جوهرة تضاهي ما ضاعت في الفرادة.
إذا كانت المؤلفة أرادت بكتابة هذا العمل إكمال ما تنقصه ألف ليلة وليلة، فهي بدورها تركتْ ثغراتٍ في نصها المروي، إذ يظلُ ما يرغب أن يقوله المتشرد لهدير مجهولاً كما أنَّ زمردة تمنعُ بروج من كشف أسرارها، كما أنَّ مصير نورسين يلفه الغموض دون أن يتم فك ألغاز غيابها.
وبهذا ترسمُ منصورة عزالدين برنامجها السردي على لعبة الفراغات بحيثُ يكون المجال متاحاً لمزيد من التخييل أو بناء قصة جديدة بناءً على الثغرات الموجودة في لحمة النص.
يشار إلى أنَّ التذكر ثيمة أخرى تنضاف إلى الفقدان والرحلة في تركيبة النص تقول زمردة قبل إحتراقها: "التذكر هو الطريق الوحيد لإنبعاثي من رمادي، عليكم تدوين حكايتي وترديدها بلا كلل"، وهذا ما يحيل إلى كلام إكتور آباد فاسيوليني الذي وضع الحقيقة في الكلمات حتى تعيش أكثر من أكاذيب خصوم أبيه.