الدولة العراقية.. اشكالية اعادة البناء

تتربص فكرة الفيدرالية بمقومات العراق كدولة، من طبيعة الحدود للأقاليم وصولا إلى تعيين مدير شرطة أو مدير مطار.

في كتابه ’بناء الدولة.. النظام العالمي ومشكلة الحكم والادارة في القرن الحادي والعشرين‘ يقول فوكوياما "لقد ولدت الولايات المتحدة تاريخياً من ثورة ضد سلطة الدولة، وتم التعبير عن الثقافة السياسية السائدة والمعادية للدولة في جملة القيود المفروضة على تلك السلطة كالنظام الفيدرالي وفصل السلطات والحكومة الدستورية التي تتمتع باليات واضحة ومحددة لحماية حقوق الفرد."

الشيء المعروف إن الولايات المتحدة، كانت قبل اكثر من قرنين تخضع للامبراطورية البريطانية، ومعروف ايضاً، إن اغلب سكانها من المهاجرين الاوربيين وغيرهم ممن انصهروا في ذلك الوعاء المكاني الكبير ليشكلوا الولايات، التي اتسمت كل واحدة منها بسمة الثقافة التي حملها او نقلها المهاجرون من مواطنهم الاصلية، وقد كان العامل الاقتصادي والمصالح المشتركة فضلاً عن الاحساس بالشعور الوطني الذي تخلّق بفعل التقادم الزمني والتعايش المشترك، دفع باتجاه الاستغناء عن وصاية بريطانيا لتبدأ رحلة الاستقلال التي انجزت في العام 1783.

هذا الواقع الثقافي، اضافة لمساحة اميركا القارية فرضت عليها النظام الفيدرالي (الاتحادي) الذي تتمتع به كل ولاية، بما يجعلها شبه مستقلة بانظمتها الادارية عن الولايات الاخرى. ولعل دولا اخرى، تشكلت لاحقا، نتيجة اتحاد اكثر من امارة او اقليم او حتى دولة، بعد ان وجدت في الاتحاد فرصة للتكامل والتقدم، فقررت التنازل عن بعض الصلاحيات لصالح الدولة الجديدة، المتحدة، وهكذا تسمى الدول التي تنبثق عن هذه الصيغة، بالفيدرالية، وتعرّب فيقال لها، الاتحادية.

 وعلى الرغم من كل ما ذكرنا، فان الدستور الاميركي اليوم، لا يتساهل مع الولايات في الموضوعات السيادية، لاسيما التي تتصل بالامن القومي الاميركي، وكذلك دساتير الدول الاتحادية الاخرى.

كتبنا كثيرا عن مشروع الفيدرالية، الذي اشتغلت عليه اكثر من جهة سياسية في عراق ما بعد 2003، واوضحنا خطورته على دولة صغيرة مثل العراق، لاسباب عديدة، من بينها انه يمزق دولة قائمة الى دويلات وليس العكس، وحساسية الموقع الجيوسياسي للعراق، واطماع دول الجوار، وتفاوت الثروات من محافظة او منطقة لاخرى.. منوهين هنا الى ان الدستور العراقي، منح الاقاليم الفيدرالية التي ستشكل، حق التصرف بثرواتها المكتشفه بعد العام 2003 وسنّ قوانين من قبلها بذلك، وتصبح هذه القوانين نافذة بعد شهرين، ان لم يوافق عليها المركز! الامر الذي سيخلق فوضى ادارية عارمة، ونزاعات على الحدود، لا تنتهي الاّ بالتفكك التام للدولة، التي ستكون اراضيها اشبه باقطاعيات تابعة لدول الجوار وغير الجوار ايضا. ناهيك عن استحالة بقاء جيش وطني في العراق المفدرل، او بالاصح المقسّم، لان الثروات الموزعة بين الاقاليم، لم يعد المتبقي منها كافيا لحكومة المركز- ان بقيت طبعا- لتديم عجلة الدولة، ولتفرض سيطرتها على كامل ارض الوطن.

في السنوات الاخيرة حصلت تداعيات اقليمية معروفة، حالت دون استمرار المطالبة بالفيدرالية، لكن الامر لم ينته بعد، ولا بد من حسم هذه المسالة، التي نرى ان هناك ممارسات في بعض المحافظات تستلهم النموذج الفيدرالي في تعاطيها مع المركز، وقد اشرنا الى ذلك في مناسبات سابقة، ومنها، رفض بعض مجالس المحافظات اوامر القائد العام للقوات المسلحة بنقل قائد شرطة من محافظة الى اخرى، بذريعة ان هذا من صلاحيات مجالس المحافظات! ما يعني ان الامن الوطني الذي يجب ان يكون تكامليا على مستوى الوطن، لم يعد وطنيا، وان رغبة الاستئثار والاستقطاب الحزبي والجهوي، تسكن عقول عدد غير قليل من المسؤولين ومن خلفهم بالتأكيد قوى سياسية نافذة. ومن هذه الحقائق فان وحدة العراق وامنه، تبقى في خطر مادامت هناك فقرات مبهمة في الدستور فيما يخص ادارة "المحافظات غير المنتظمة باقليم"، اضافة الى مسالة اقامة الاقاليم التي ينص عليها الدستور بشكل واضح.

لقد سمعنا مؤخرا ان مجلس محافظة النجف، رفض امرا لرئيس الوزراء بتعيين مدير جديد للمطار، بذريعة ان هذا من صلاحية المحافظة، ما يعني اننا سنصبح امام سلطات متعددة للطيران المدني في العراق، الامر الذي سيربك عمل سلطة الطيران العراقي المركزية، ويكرس مبدأ الاستئثار بالثروات التي يجب ان تذهب لخزينة الدولة، كما هو الامر مع المنافذ الحدودية، لان المطارات هي منافذ حدودية بشكل اخر.

هذه الوقائع يجب ان تكون امام الحكومة الجديدة، وعليها ان تتخذ اجراءات فاعلة تجاهها، لتعيد بناء الدولة، التي وضعها الدستور الحالي في اشكالية، وهي بالتأكيد قليل من كثير عليها القيام به، وفي مقدمته، طبعا، العمل على تغيير الدستور المشوه الذي فتح ابواب الخراب على البلاد، وما زال مصدر تهديد حقيقي لوحدتها.

هل يسمح المتربصون بالدولة والحالمون بامارات الطوائف باصلاح حقيقي؟ هذا ما سيجيب عنه القادم من الايام والاعوام.