الدينار العراقي يدفع ثمن النزاع الإيراني الأميركي

الدينار العراقي يواصل انهياره أمام الدولار ليصل إلى مستوى هو الأدنى منذ 20 عاما، بسبب قيود فرضتها الولايات المتحدة على التحويلات المالية لمحاصرة تدفق أموال من إيران لوكلائها في المنطقة.

بغداد - يدفع الدينار العراقي ثمن صراع أميركي إيراني في الساحة العراقية بينما تبدو أزمة سعر صرف المحلية مقابل الدولار أحدث حلقة في هذا النزاع بسبب قيود أميركية على مصارف عراقية  لمحاصرة منافذ تدفق أموال من إيران لوكلائها في المنطقة وهي إجراءات وصفتها طهران والأحزاب والميليشيات الموالية لها والمنضوية تحت لواء الحشد الشعبي، بأنها مؤامرة أميركية.

ويشهد سعر صرف الدينار العراقي منذ نحو شهرين تراجعا متواصلا مقابل الدولار، يفسّره خبراء ببدء العراق الامتثال لإجراءات دولية تتعلق بالتحويلات المالية بالعملة الصعبة، فيما ترجعه أطراف في البلاد إلى الصراع الأميركي - الإيراني، محذرة من تجويع الشعب العراقي.

وفقدت العملة العراقية حوالي 10 في المئة من قيمتها وتراجع سعر الدينار في السوق منذ منتصف نوفمبر/تشرين الثاني إلى 1600 دينار، قبل أن يستقرّ عند نحو 1570.

وكان البنك المركزي العراقي قرر في وقت سابق تعديل سعر صرف الدولار أمام الدينار العراقي، إذ بلغ سعر شراء الدولار من وزارة المالية 1450 دينارا، أما سعر بيعه للبنوك فقد حدد بـ1460 دينارا لكل دولار، فيما ضبط سعر البيع للمواطن بـ1470 دينارا لكل دولار.  

وبدأ هذا التراجع يثير مخاوف العراقيين من تدهور قدرتهم الشرائية في بلد يعتمد بشكل كبير على المواد المستوردة من الدول المجاورة والولايات المتحدة والصين لتزويد أسواقه باحتياجاتها، لذا يشكل ارتفاع سعر صرف الدولار مأزقا حقيقيا بالنسبة إلى التجار والمواطنين على حد السواء.

ويقول مستشار رئيس الوزراء للشؤون المالية مظهر صالح لـ"فرانس برس" إن "السبب الجوهري والأساسي لهذا التراجع هو قيد خارجي"، لكن بعض السياسيين العراقيين يتهمون الولايات المتحدة بهندستها لمخطط ضرب عملة بلدهم.

واتهم هادي العامري رئيس تحالف الفتح الممثل للحشد الشعبي الذي يضمّ فصائل موالية لإيران منضوية في الدولة في تصريح الثلاثاء الأميركيين بممارسة "الضغوط على العراق لمنع انفتاحه على أوروبا ودول العالم"، مؤكدا أن "الأميركيين يستخدمون الدولار كسلاح لتجويع الشعوب".

أما الخبير الاقتصادي أحمد طبقشلي فيرى أنه "على عكس الشائعات والمعلومات المغلوطة، لا يوجد دليل على ضغط أميركي على العراق".

وأضاف أن تقلّب الدينار يعود إلى امتثال العراق لبعض معايير نظام التحويلات الدولي (سويفت) الذي بات ينبغي على المصارف العراقية تطبيقه منذ منتصف نوفمبر/تشرين الثاني للوصول إلى احتياطات العراق من الدولار الموجودة في الولايات المتحدة.

وتابع "ليتمكّن العراق من الوصول إلى تلك الاحتياطات التي تبلغ 100 مليار دولار عليه حاليا التماشي مع نظم تتطلب الالتزام بأحكام مكافحة غسيل الأموال العالمية وأحكام مكافحة تمويل الإرهاب وتلك المرتبطة بالعقوبات، مثل المطبّقة على إيران وروسيا".

 وقال إن "الأمر يتعلق بدخول العراق ضمن نظام تحويلات مالي عالمي يتطلب درجة عالية من الشفافية، لكن ذلك سبّب صدمةً للعديد من المصارف العراقية لأنها غير معتادة على هذا النظام".

وأوضح مظهر صالح أنه ينبغي على المصارف العراقية حاليا تسجيل "تحويلاتها بالدولار على منصة إلكترونية ويقوم الاحتياطي الفدرالي الأميركي بفحصها وإذا كانت لديه شكوك يقوم بتوقيف التحويل".

ورفض الاحتياطي الفدرالي منذ بدء تنفيذ القيود 80 في المئة من طلبات التحويلات المالية للمصارف العراقية بسبب شكوك حول الوجهة النهائية لتلك المبالغ الذي يجري تحويلها.

وكانت لهذا الرفض تداعياته على عرض الدولار في السوق العراقية، إذ تراكم الطلب لكن العرض لم يكن متسقا معه وبالتالي تراجع سعر الصرف مع انخفاض تحويلات المصارف بالدولار.

ونفى السفير الإيراني لدى بغداد محمد كاظم آل صادق يوم الجمعة الماضي ما يروج حول اتهام بلاده بالوقوف وراء تهاوي الدينار العراقي، مؤكدا أنها "تدعم العراق رغم جهود بعض الأطراف لتشويه الحقائق وتضليل الرأي العام بشأن قضية ارتفاع سعر الدولار الأميركي في العراق".

وقال عبر حسابه على تويتر "ستظل الجمهورية الإسلامية الداعم الأول لتنمية العراق واستقراره وتقدمه، رغم تعرضها لاتهامات باطلة هدفها حرف الرأي العام عن المسبب الرئيسي لأزمة سعر الدولار".

وأعلن البنك المركزي العراقي في بيان له الثلاثاء الماضي عودة سعر الصرف إلى ما كان عليه خلال أسبوعين، واصفا اضطراب أسعار الدولار بأنه "حالة مؤقتة".

واتخذت السلطات العراقية حزمة إجراءات منها تسهيل تمويل تجارة القطاع الخاص بالدولار من خلال المصارف العراقية وفتح منافذ لبيع العملة الأجنبية في المصارف الحكومية للجمهور لأغراض السفر.

وقرر مجلس الوزراء كذلك "إلزام الجهات الحكومية كافة ببيع جميع السلع والخدمات داخل العراق بالدينار وبسعر البنك المركزي والبالغ 1470 دينارا للدولار الواحد".

ويرى مظهر صالح أن "هذه الإجراءات مهمة لأنها تظهر أن الدولة موجودة لحماية السوق والمواطن وتساعد على التصدي للمشكلة".

ورغم تراجع الدينار لا تزال نسبة التضخم ضئيلة حيث بلغت 5.3 في المئة بوتيرة سنوية في أكتوبر/تشرين الأول 2022، لكن المخاوف الفعلية تتعلق بتراجع القدرة الشرائية للعراقيين خلال الفترة المقبلة، في ظل توقعات بصعود الدولار إلى مستوى 2000 دينار عراقي.

وبدأ سعد الطائي المتقاعد الذي يساعد ابنه في إدارة متجر صغير في حيّ الكرادة في بغداد يلمس أثر تقلبات سعر الصرف على قدرته الشرائية ويقول إن "هذا التذبذب الذي يحصل مشكلة حقيقية للتاجر الذي يبيع بالمفرق وللمستهلك".

وأضاف "العراقيون رواتبهم محدودة ويتقاضونها بالدينار العراقي. أنا كمتقاعد أستلم 494 ألف دينار، حينما كان الدولار 1470 كانت قيمة راتبي 336 دولارا، اليوم على سعر صرف 1570 يصبح راتبي 314 دولارا".

وانخفاض قيمة الدينار العراقي مقابل الدولار ومعالجته بعد ذلك، ثم انخفاضه مرة أخرى، ليس سوى تكرار للعبة قديمة بدأت تحت حكومة نوري المالكي بين عامي 2006 و2014 وظلت تتواصل إلى اليوم من خلال مجموعة من المصارف الخاصة التي تخضع لإدارة قادة أحزاب وميليشيات وتعمل لصالح إيران وتقوم بمضاربات وتحويلات تتجه إلى إيران مباشرة عن طريق مصارفها في العراق، كما تتجه بعض الأموال إلى الأردن وتركيا، قبل أن تتسرب إلى مصارف دولية أخرى وذلك بالاستفادة من نافذة بيع العملات التي يفتحها البنك المركزي العراقي وكذلك التسهيلات التي يقدمها للشركات والمصارف الخاصة الأخرى للحصول على مئات الملايين من الدولارات يوميا.

وأصبحت المصارف الخاصة التي نشأت عقب الغزو الأميركي للعراق ظاهرة من أكبر الظواهر في العراق ورغم أنه لا يوجد لها مبرر اقتصادي حقيقي، إلا أن الاتجار بالعملة بات مبررا كافيا لنشاطاتها.

ما يحصل الآن هو أن المصرف المركزي باع دولارات بسعر 1450 دينارا للدولار الواحد، فانخفض سعر الدينار إلى نحو 1750 دينارا، وسيعود ليشتري دولارات أقل بالسعر الجديد وهكذا يتم تحقيق أرباح بالعشرات من الملايين يوميا، في دورة لا تنتهي أحدثت خصيصا لنقل الأموال إلى إيران باعتبارها "المضارب الأكبر".