الدين يسبق السياسة في العالم العربي

لم يتنبه بعض شيوخ الدين في مصر إلى الأسباب الحقيقية التي دفعت تونس للتفكير بجدية في قضية الإرث الشائكة واتخاذ خطوات عملية لحل مشكلة مجتمعية حادة.

لماذا تسبق القضايا الدينية، القضايا السياسية؟ هذا سؤال مهم طرحه أحد الأصدقاء على صفحته في فيسبوك مؤخرا، وتحول إلى محل اهتمام من جانب كثيرين، لأن القضايا الدينية بالفعل أصبحت تسبق غيرها من الملفات السياسية في كثير من الدول العربية، وتحظى باهتمام قطاعات رسمية وشعبية واسعة، فضلا عن انخراط رجال الدين أنفسهم في تفاصيلها بصورة أعادت لهم حيوية مفقودة.

المكانة التي يحتلها الدين في وجدان المواطنين جعلته يعلو على غيره من الموضوعات المصيرية، وتجد البعيدين عنه أصلا ينتفضون بمجرد أن يقترب منه أحد بسوء، وهي فطرة تنتشر بوضوح في المجتمعات الشرقية، ويبدو المواطنون فيها أكثر تدينا، ويستنفرون همهمهم بمجرد سماع كلام يسيء إلى المعتقدات التي شبوا عليها أو ما لا يتوافق مع قناعاتهم الدينية.

التنافس بين المؤسسات الدينية في بعض الدول العربية، أدى إلى سباق في أيهم يحظى بمكانة أكبر في المجتمع، ومن يتمكن من فرض وصايته الرمزية، بدلا من المنافسة حول من يستطيع تقديم حلول عصرية مقنعة؟

تراجع دور جماعات الإسلام السياسي التي درجت على استثمار الدين وتوظيفه لمرامي خاصة بها، لم يمنع الشيوخ المعتدلين من ممارسة الدور ذاته، ووجدوا في الخطاب التونسي بشأن المساواة بين الرجل والمرأة فرصة للجدل، دون مراعاة للخصوصية التي جعلت المجتمع هناك يفتح الباب لمناقشة القضية وجعل المساواة اختيارية.

الجفاف السياسي الحاصل في دول عربية كثيرة لا يتواءم مع تنامي الصراعات والأزمات والتحديات، ويساهم بدور كبير في سخونة الحوارات الجارية حيال أمور دينية متعددة، ويسمح للشيوخ أن يتقدموا الصفوف ويدلون بآرائهم في قضايا صاخبة، بعضها يستحق تبادل وجهات النظر، وغالبيتها مفتعل ولا يستحق الوقوف عنده، وتمت إثارته من باب عدم التخلف عن المشاركة وتأكيد الحضور.

هناك من يتعاملون مع قضايا دينية شبه محسومة أو بحاجة إلى توضيح بسيط، على طريقة من يعيدون اختراع العجلة، أو كأنهم دخلوا غمار معركة مع أطراف معادية، الانتصار فيها يحسم الوزن والأهمية المجتمعية، وهو ما أدخلنا في حالة غريبة من الاستقطاب، كان كثيرون اعتقدوا أنه ذهب بلا رجعة مع خفوت صوت الحركات الدينية في المجتمع.

الواضح أن الهوس بالقضايا الدينية لم يعد قاصرا على المسلمين، بل شمل فئات من المسيحيين، فقد سمعنا لأول مرة عن مناقشة قضايا مهمة خارج جدران الكنيسة، ومع أن هذه مسألة لها جدواها وقيمتها المعنوية في سياق التفاعل المجتمعي وحقوق المواطنة وتخفيف حدة الكهنوت، غير أنها نكأت جراحا وجد البعض فيها ضالتهم للنيل من آخرين.

مناقشة القضايا الدينية بعقل مفتوح وبدون مواقف وأحكام مسبقة، تمثل إضافة نوعية لأطياف المجتمع، لكن المشكلة أنها تدخل فضاء ضيقا يخرجها عن سياقها الإيجابي، فهناك من يحاولون لي أعناقها لصالح أفكارهم، ومن يستخدمونها لأغراض أيديولوجية، دون اعتداد بالمكونات التي تتماشى مع روح العصر ومقتضياته.

لست بصدد الحكم على صواب أو خطأ فريق معين، أو الدخول في جدل من يحق له أن يدلي بدلوه في أمور دينية. لكن الموضوع خرج من حيز المختصين إلى عموم الناس، فإذا كان رجال الدين منقسمين على أنفسهم، فالكثير من المواطنين يؤيدون فتوى بعينها ويدافعون عنها، في مواجهة من يتبنون رأيا مختلفا، بما زاد من درجة الانقسام، ما يستلزم وقفة للمراجعة.

بعض الحكومات العربية وجدت في الخلاف حول تجديد الخطاب الديني وقضايا الميراث وحظر النقاب في الأماكن العامة وجدوى الكشف عن جسد المرأة خلال فترة الخطبة وغيرها، ملاذا لشغل الناس والنخب بملفات مثيرة، ربما تنسيهم أزماتهم الاقتصادية وهمومهم السياسية، وتأتي تصرفات بعضها، عن قصد أو بدونه، لتزيد الشد بين المؤسسات الدينية، ويحتدم الخلاف بصورة تفقدها الهيبة المطلوبة لاحترام تفسيراتها واجتهاداتها.

المشكلة أن الضوضاء بشأن المسائل الفقهية والشرعية، تمنح فرصة لبعض الجماعات الدينية للعودة إلى المشهد العام، بعدما توارت خلال الفترة الماضية، بفعل الضربات الأمنية والسياسية التي وجهت لها. اللغط الديني والتصحر السياسي يوفران لها مناخا مواتيا للاشتباك مع المجتمع ومن يتعاطفون معها، لأن مؤسسات رسمية في بعض الدول باتت متفرغة لتصفية الحسابات الشخصية، وغير عابئة بحجم التأثيرات التي تؤدي إليها التفسيرات الدينية المثيرة.

الخطورة أن التجاذبات الراهنة سوف تنحرف عن مسارها، ولن تغني عن طرح القضايا السياسية، فالبيئة التي تتم فيها مناقشة بعض الموضوعات تموج بتيارات متصارعة. جزء منها أخذ شكلا دينيا، بينما هو يحمل طابعا سياسيا. فإثارة المساواة في الميراث بين التونسيين على نطاق واسع، في ظاهرها قضية دينية وفي باطنها سياسية، لأن المصادقة عليها من قبل الرئيس الباجي قايد السبسي، وجهت ضربة قوية لحزب النهضة الإسلامي الحليف القوي في الحكومة التونسية.

لم يتنبه بعض الشيوخ إلى الأسباب الحقيقية التي دفعت تونس للتفكير بجدية في هذه القضية الشائكة واتخاذ خطوات عملية لحل مشكلة مجتمعية حادة، وتغافلوا عن مناقشتها بهدوء، لأنهم أرادوا حصرها في نطاق ديني صرف.

في كل قضية دينية، نرى المؤيدين والمتعاطفين مع التيار الإسلامي تبنوا موقفا متشددا، والمختلفون معه جذريا كانوا أكثر ليونة، وهي ظاهرة تستحق التوقف عندها، لأنها تكشف عن وجه خفي يمكن أن يتفاعل سياسيا بشكل أكبر في بعض المجتمعات العربية.

الدور النشط لوسائل التواصل الاجتماعي سمح لكثيرين بالاشتباك مع القضايا الدينية، وتم استغلال السهولة التي تتمتع بها في الانتقال من مكان إلى آخر في حرفها عن أهدافها، لذلك لن تعد الموضوعات التي يتم طرحها في مصر أو تونس قاصرة عليهما، فقد يمتد الحوار إلى دول أخرى، ما يمنحها جاذبية، تتجاوز الاشتباك بين المؤسسات الدينية، وتصل إلى حد التلاسن على الصعيد السياسي هنا وهناك.

الواقع أن النتائج التي تجلبها القضايا الدينية، تفوت الفرصة على من ساهموا في العزف على وترها ومحاولة تشجيعها، وتجعلهم يعيدون التفكير في الدوافع التي أدت بهم إلى تركها وطرحها على الفضاء العام، وتقنين وضع المؤسسات الدينية، ومن يُسمح له بالفتوى في أمور معقدة، قبل أن يختلط الحابل بالنابل ويصبح من الصعوبة السيطرة على الموقف سياسيا وليس دينيا.