الذات والذات الأخرى في النصّ الشعري

المفردات تتراكض أمام عين الشاعرة رحمة عناب بينما هي تلتقط أنصعها إشراقاً فتغمسها في بئر كينونتها لتحمّلها كلّ مواجع الروح والهيام.
الذات الشاعرة استطاعت أن تحلّق في مديات بعيدة، وأن تتحرر من قيود الزمان والمكان
على هدبنا يتهجد السهد نبحث عن ظلّينا شريدَين على المرايا الحائرة كريشتين ببطء تصعدان تذوبان في ريح هائجة

يقول ميشيل فوكو: "مشكلتي أن أصنع ذاتي وأن أستدعي الاخرين الى أن يقوموا معي".
منذ ارتكاب الخطيئة الأولى وافتراق آدم وحواء بعدما طُردا من الفردوس وهما في بحث دائم مستمر على بعضهما ليكمّلا وجودهما على الأرض، فكلاهما يبقى (- سالباً) وبحاجة ماسّة إلى الآخر ليتمّ التعادل، يتوحّدا في هيئة واحدة وتصبح النتيجة ( + موجبة) بحضور الإنسان، ويحاول أن كل يثبت حضوره من خلال الآخر. ويمارس الإنسان عن طريق ممارسته للفنون والآداب أن يثبت وجوده في هذا العالم، ففي الكتابة وبالخصوص الشعر ستحاول الذات البوح وتحقيق وجودها. وإنّ كتابة قصيدة سردية تعبيرية من الصعوبة تحقيق غاياتها وجماليتها وهندستها، ما لم تمتلك هذه الذات المعرفة العميقة بطريقة كتابتها والوفاء لها والامتثال لشروطها. 
من خلال متابعتنا لكتابات الشاعرة رحمة عناب، نتلمس الموهبة المتقدة والفطرة المشبعة بالمعرفة، وكأنّي بها حين ممارستها للكتابة أنّ المفردات تتراكض أمامها بينما هي تلتقط أنصعها إشراقاً فتغمسها في بئر كينونتها لتحمّلها كلّ مواجع الروح والهيام، وتعلّقها على شغاف القلب تتلمظ نبضاته لا تعرف الهدوء والسكينة تتعايش معها بسلام، لن تخذلها هذه المفردات ولم تتخلَّ عنها، تنام إلى جانبها مطمئنة لغوايتها المتجدّدة تمنحها قيادتها، تُسرع بها في الزمان المطلق بلا حدود، فضاؤها مكان شاسع العجائب، لن تعتريها شيخوخة أو كهولة، كالنهر تؤمن بديمومة التغيير، لا تتعكّز على المباشرة ولا على الخيال المبالغ فيه، تحاول دائما أن تبذل جهدها في جعل الشعر الكثير ينبعث من خلال النثر الكثير، وتكون نصوصها مشحونة بالعاطفة والمشاعر القويّة والوجدانية النقيّة. 
واليوم سنتناول قراءة نصّها المعنون "سرمدية الزيتون تنعش القناديل" ونحاول السياحة تحت قناديلها المتوهّجة. 
يبقى دائما العنوان هو الباب الرئيسي والذي من خلاله نستطيع الدخول إلى عالم الشاعر، فهو مهم جدا كونه يلخّص ما يريده الشاعر، وكانّه يختزل النصّ في العنوان. فالعنوان هنا فيه من الدلالات والإيحاء ما يجعل المتلقي يتساءل عمّا أرادت الشاعرة أن تقوله من خلال عنوانها هذا. للوهلة الأولى نجد التناص القرآني حاضرا من خلال مفردة (الزيتون / القناديل – في الآية المباركة .. "زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء" ..) ، وكأنّ لا وجود للذات الأخرى – القناديل إلاّ بوجود الذات الشاعرة – زيتونة، وهذا يعني أنّ الذات الشاعرة لا وجود لها إلا إذا تجلّى حضورها وآثارها في الذات الأخرى، وقد يوحي لنا أيضا تداخل الأزمنة فيما بينها من خلال مفردة "سرمديّة"، الزمن المطلق مع الزمن الآنيّ من خلال مفردة الفعل المضارع "تُنعش"، في حالة من التماهي والتوحّد، وكأنّ لا زمن إلا بوجود الزمن الآخر.
وقد يوحي لنا العنوان أيضا من خلال مفردة "الزيتون" وتعني الحياة والنمو والحركة، ومفردة "القناديل" التي تعني الموت والانطفاء والظلام، وكذلك نلاحظ القصدية في تقديم الزمن المطلق وطغيانه على الزمن الحالي، وكأن الشاعرة أرادت أن تقول لنا إنّ المرأة هي أصل الحياة فلا حياة إلا من خلالها، فهو الوجود المستمر النابض بالحيوية والديمومة. 
إنّ الذات الشاعرة هنا استطاعت أن تحلّق في مديات بعيدة، وأن تتحرر من قيود الزمان والمكان، في هذا بوح أقصى تجّلت فيه مقدرتها على صياغة لغة خاصة بها، وإن تعبّر عن ذاتيتها أصدق تعبير كون لغتها هذه هي الملاذ الذي تلوذ به من واقع تحاول الخروج من دائرته والانفلات بعيدا. 
يبدأ النصّ بهذا السؤال التعجبي المقلق "إلى متى سيبقى الليل حالما بالأحلام!". لو تساءلنا مع أنفسنا عن معنى هذا المقطع وحاولنا قراءته بطريقة أخرى، فقد يوحي لنا عن حالة الاحتياج والانتظار والترقب واللهفة عند الذات الأخرى، حيث ترمز مفردة (الليل – المذكر) إلى الذات الأخرى كما قلنا المقيّدة بسلاسل الظلام وقيود الواقع وقسوة الحياة، بينما ترمز مفردة (الأحلام – المؤنثة) إلى الذات الشاعرة بكل ما تعني من الرقّة والعذوبة والشفافية والجمال والأنوثة. 

السردية التعبيرية
رحمة عناب

لقد أرادت الذات الشاعرة أن تشكي حال الذات الأخرى وتتساءل إلى متى وكيف، ستبقى تدور في فلك الظلام تبحث عن النور والحياة بلغة تتجلّى فيها الصوفية من خلال مفردتي (الليل / الحلم) وهما من الأوقات المحببة لدى الصوفية.  
في هذا المقطع الطويل "على هدبنا يتهجد السهد نبحث عن ظلّينا شريدَين على المرايا الحائرة كريشتين ببطء تصعدان تذوبان في ريح هائجة توأمان أنجبتهما خرافة اللقاءات نجوس المواقيت على صهوة التمني الأغرّ". نجد بوضوح حالة التوحّد والتماهي ما بين الذات الشاعرة والذات الأخرى عن طريق الضمائر المتصلة، والذي يوحي لنا عمق الإنصهار فيما بينهما إلى حدّ الظهور والتجلّي كـ ذات واحدة لا فكاك ولا خلاص فيما بينهما.
"هدبنا. نبحث. ظلّينا شريدَين كريشتين تصعدان تذوبان، توأمان أنجبتهما. نجوس". في حالة من الاحتماء والاطمئنان والسكينة، بينما نجد في هذا المقطع "خارق يغوص آفاقي المبجلة يقرضني هياماً يتمايل فيه الأزل ينقر تخوم الغياب العطشى يفتت ليلاً أبكما شاخت فيه العتمة يزدلفني إلى مساءات يعجّها الضوء".
إنّ الذات الشاعرة قد تحررت من الذات الأخرى وعادت منفردة كما الذات الأخرى عن طريق استخدام الضمائر في المفردات (خارق / يغوص / آفاقي / يقرضني / يتمايل / ينقر / يفتت /   يزدلفني). وهذا كلّه يعطينا مساحة من التأويل والتأمّل وقراءة الذوات وكيفية التحرك ضمن هذا النسيج الشعري الثرّ. 
ونجد في هذا المقطع "أتوهج كلما سالت بهجتك في صباحاتي. آراكَ فجراً يعانق الشمس على حافة الكون كقنديلٍ ذاوٍ أنعشه زيت لاهب. تعابثني أطياف مداراتك الشقية، أزرعها يقينا صارماً في مواثيقنا القدسيّة، سادرة تنبت في غناء اليمام يحمل أرتال محبة أحنت كاهل الانتظار العارم".
هذا الزخم الشعوري العنيف والعذب وهذه اللغة الصوفية المشرقة وانزياحات لغوية عجيبة تتدفق من خلالها رقيقة خصبة رهيفة عميقة. وكذلك يرتفع عاليا في هذا المقطع صوت الذات الشاعرة ويتجلّى بوضوح من خلال مفردات (أتوهج / صباحاتي / أراك / تعابثني / أزرعها).
وتختتم الشاعرة نصّها المثير بهذه الإثارة واللغة العالية والبوح العميق في محاولة منها لتحفيز المتلقي وإشغال ذهنه بهذه اللغة اللامألوفة والمنفتحة على مديات واسعة في لوحة باهرة الصور وتدفق شعري مستمر وتماهي وذوبان في الذات الاخرى: "كزيتونة أنهكها الحمل أنتَ .. خرافة الأساطير حقيقة من ثقب الوهم انبعثت كلما توضأت بصوتك انهمرت أغنية شوق أسطرها ملحمة أزلية تعال نغنيها أغنية سرمدية الذهول تعانق أقمار الكون تحطم متاريس الغربة الشائكة فـ مَن ذا الذي يرجم أوار البعد الآثم؟!".
فمثلا هذا المقطع يمكننا قراءته بأكثر من طريقة، مثلا "كزيتونة أنهكها الحمل أنتَ – كزيتونة / أنا – الذات الشاعرة – أنهكها الحمل أنت – الذات الأخرى / أو هكذا أنت – الذات الأخرى و ... / خرافة الأساطير  حقيقة / أنا – الذات الشاعرة ، عن طريق لعبة لغوية تحاول من خلالها إستفزاز المتلقي وإثارة أكثر من سؤال لديه، وينفتح في قراءته مع النصّ.
وحاولت أن تستخدم التضاد اللغوي سواء على مستوى المفردات مثل (العتمة – الضوء)، (خرافة – حقيقة)، أو على مستوى الجمل مثل (على هدبنا يتهجد السهد - تصعدان  تذوبان في ريح هائجة) وغيرها لمقدرة هذا التضاد على الكشف عن حركية تموج بها المعاني داخل النسيج الشعري لأنه يشيع في مفاصل النصّ حركة دائبة بيت هذه العناصر المتضادة .
إنّ الذات الشاعرة في هذا النصّ رغم قربها الشديد من الذات الأخرى وتماهيها وانصهارها معها إلا أنه دائم البحث عنها كونها تخشى من قسوة الفشل وخيبة المرارة وألم الاخفاق، فحاولت أن تحتمي بلغتها هذه مترجمة بذلك عن تجربة روحية عميقة بحثا عن اليقين وهروبا من عالمها إلى عالم حاولت من خلاله أن تجد نفسها وتصور لنا هواجسها ودواخلها الروحية، إنها لغة الحيرة البهيّة المهذّبة عن النفايات والزوائد اللغوية التي تقتل النصّ وترهّله، لقد جاءت اللغة حيّة تنبض بالدفء والوجد والهيام. بينما جاءت الصور الشعرية في النصّ تتناوب ما بين الصور الشعرية المفردة والصور الشعرية المركبة والصور الشعرية الكلّية .
فهل استطاعت الذات الشاعرة من خلال النصّ التوحّد مع الذات الأخرى في صراخها الصامت هذا؟! وهل استطاعت أن تقول كلّ ما أرادت قوله في هذا النصّ؟! وهل وجدت نفسها في وجود الذات الأخرى؟! وهل استطاعت لغة النصّ هنا أن تجسّد لغة العشق المقدّس والابتعاد عن لغة الهذيان بحكمة ووقار؟! أسئلة سيكتشفها المتلقي المبدع إذا ما امتلك ذائقة إبداعية نقيّة وحسّاً مرهفاً بوجود الجمال وقلباً يتسامى باحثاً عن لغة تخترق المعتاد وتُبشّر بلغة جديدة .
وسنبقى نردد مع الذات الشاعرة هذا المقطع "أتوهج كلما سالت بهجتك في صباحاتي. أراكَ فجراً يعانق الشمس على حافة الكون". لنتلمس سرّ وعظمة اللغة في السرديّة التعبيرية وفتونها وفتوّتها وجماليتها ورساليتها.