مسرح الدمى وأثرهُ النفسي في تعديل السلوك

قراءة في مسرحيّة "داني" تأليف وإخراج خلود غازي الشاوي.
المشاهد كلّها تدلّ على بوادر ثقافة جديدة وتغيّرات في نمط الحياة وسلوكيات أطفالنا ما عهدناها من قبل
خلود غازي الشاوي استطاعت أن تنفخ في الرماد وتدعو إلى الاهتمام بهذا المسرح المهم والفعّال في حياة الطفل

إنّ ما تتعرّض له الشعوب والأمم من محن وويلات وحروب وكوارث سيعمّ خرابها على الجميع وتترك بصمات آثارها وتأثيراتها واضحة في النفس البشريّة، وستتأثّر الحياة بما تنتجه من تأثرات سلبيّة عديدة لا ينجو منها الكبير والصغير، وستغيّر من سلوكيات المجتمع وستفرض نمطاً آخر للحياة، وطرقا مناسبة للتعامل معها ضمن هذه الظروف الجديدة، وستظهر ثقافة أخرى تحمل نكهة هذه الكوارث والويلات. 
وبسبب هذه الظروف الجديدة فقدنا الكثير من الجمال، وزحف الخراب ممتشقاً سيفه يحزّ بوادر الخير والضياء، ومن ضمن ما فقدناه تحت قسوة هذه الحياة الجديدة مسرح الطفل، وبالخصوص مسرح الدمى، هذا المسرح الذي كان وسيبقى ضمن دائرة اهتمام الطفل وتعلّقه به، هذا المسرح الذي ينمّي قدرات الطفل المختلفة الذهنية والحركية والوجدانية والحسيّة وحتى الجمالية. هذه الشخصيات (الدمى) البشرية والحيوانية الصغيرة لها تأثراتها النفسية في لفت أنظار وانتباه الطفل وتحريك مخيّلته وتصحيح السلوكيات الخاطئة بطريقة مسليّة من خلال إثارة الضحك والمرح والاهتمام والتركيز على ما تطرحه هذه الشخصيات من أفكار يجب أن تتوافق أولاً مع حالة الطفل النفسية واستعداداته والمراحل العمرية له، هذه الشخصيات (الدمى) بألوانها الزاهية وحركتها المثيرة للضحك والمتعة ستكون قريبة جداَ من ذهنية الطفل، وبمقدورها تصحيح الأفكار الخاطئة وزرع نزعة البحث عن الصواب عن طريق التثقيف وإيصال القيم الفاضلة وتعزيز النبيلة في نفوس الأطفال والتي هي عبارة (نفوس الأطفال) عن صفحة بيضاء يمكننا بسهولة الكتابة فيها كل ما نريد عن طريق التخطيط الصحيح والمدروس علمياً ونفسياً واجتماعياً .

هذا العمل الجادّ هو دعوة حقيقية للجميع في أن تتضافر جهودهم وتنتشل طفولتنا من الضياع القادم، وبثّ روح الأمل في مسرح الدمى من جديد

إنّ مسرحية الدمى "داني" وهذا هو عنوانها، استطاعت مؤلفتها ومخرجتها خلود غازي الشاوي أن تجعل من شخصياتها شخصيات فاعلة ومؤثرة من خلال النصّ المسرحي، ومن خلال طريقة تحريك هذه الشخصيات (الدمى) وحركتها على المسرح، بحيث كانت هذه الشخصيات (الدمى) قريبة جداً من الأطفال .
من خلال قراءة النصّ المسرحي يتبين لنا أنّ الأجواء تبدو مشحونة بالقلق والخوف هذا من جهة، ومن جهة ثانية سيطرة الثقافة الجديدة على أفكار ومشاعر واهتمامات الأطفال وتمرّدهم وعدم اللامبالاة، كما في هذا المقطع من النصّ المسرحي / داني يدخل من الباب وهو يستمع الى أغنية "الوقاية للأطفال" في جوّاله، ويتراقص عليها، وهو يرتدي كفوف وكمّامة ويرمي كيس شيبس. هنا نجد بأنّ الدمية - داني كان خارج البيت، وسنعلم فيما بعد عن طريق قراءة النصّ بأنّ هذا اليوم هو يوم الأمتحان له، ثم نجد هناك أغنية تدعو الأطفال للوقاية يستمع إليها من خلال جوّاله الشخصيّ، بينما هو يرقص وفي الوقت نفسه يرتدي كفوف وكمّامة، وبكل سهولة وبعدم اللامبالاة يرمي كيس الشبس. 
هذه المشاهد كلّها تدلّ على بوادر ثقافة جديدة وتغيّرات في نمط الحياة وسلوكيات أطفالنا ما عهدناها من قبل، هذه التغيّرات تركت بصماتها واضحة عليهم، ولمسنا ذلك من خلال تصرّفات (داني) الطفل المشاغب والعنيد. ثم نجد حرص الأم وخوفها الشديد على تعقيم كلّ شيء حتى ولدها (الدمية - داني)، فيردّ عليها ببراءة: ما هذا يا أمّي هل أنا حشرة ..؟! ثم تدخل الأم الى صميم الموضوع أو الحدث حينما تقول له: لكن فايروس كورونا يبقى على الأسطح.  

Children's theater
خلود غازي الشاوي

إذاً نحن أمام مشكلة وكارثة حقيقية وليست طرفة كما يتصورها الطفل (الدمية – داني). ثم نجد ملامح غريبة وغير مقبولة إجتماعياً في شخصيته متمثّلة بـ / العناد / عدم الاستماع إلى النصائح والإرشادات / والكذب / رغم كلّ التأكيدات، ثم حالى اللامبالاة حينما نعرف من خلال النص المسرحي بأنّه لمْ يرتدِ الكمّامة والكفوف حينما كان خارج البيت، ثم تظهر على المسرح شخصية أخرى (شخصية أيجابية) هي شخصية (الدمية – زينة) شقيقة (الدمية – داني) المثابرة والمجتهدة حينما تُجيب عن جميع الأسئلة الخاص بها، وهنا أيضا نجد ملامح جديدة في حياتنا وهي "الامتحان الإلكتروني"، وهذا ما فرضته علينا وعلى أولادنا الظروف الجديدة التي نعيشها الآن بسبب هذا الوباء اللعين. 
وبعدها نشاهد ملامح خطيرة في سلوكيات هذا الـ (الدمية – داني) وهي لعبة (البوبجي)، هذه اللعبة التي تتحدث عن / القتل / السلاح / الموت / الرعب / الخوف، نتلمس ذلك من خلال ما جاء في النصّ المسرحي، فنقرأ: يلعب البوبجي / أين السلاح / سوف يقتلوني / أوف لقد قتلوني. هذه ملامح وسلوكيات فرضها علينا الواقع الجديد، واقع الأزمات والقتل والحروب والدمار، سلوكيات خطيرة أينعت بذورها في نفوس أطفالنا وترعرعت في أحضانها. ثم نجد الفشل الذي كان ينتظر شخصية (الدمية – داني) حينما نجده خلال النصّ المسرحي / يصرخ / السؤال الأول صعب / والسؤال الثاني صعب / والثالث ايضاً / أنا لا أستطيع أن أُجيب على أي سؤال. إنّها حالة الفشل الذريع .
لقد استطاعت المؤلفة والمخرجة: خلود غازي الشاوي من خلال مسرحية الدمى هذه أن تنفخ في الرماد وتدعو إلى الاهتمام بهذا المسرح المهم والفعّال في حياة الطفل من خلال نصّ مسرحي نموذجي مترابط الأفكار ومتسلسل الأحداث، وبدون ترهّل أو حشو، فكانت الفكرة واضحة وقريبة من تفكير الطفل عن طريق واقعيتها مكانياً وزمانياً. إنّ أختيار الشخصيات في هذه المسرحية كان مدروساً وذكياً عن طريق قلّة هذه الشخصيات وفعاليتها ضمن الأحداث المرسومة بعناية ودراية لها، وطريقة طرحها للفكرة بصورة بسيطة وغير معقّدة ومحبّبة وقريبة من خيال الطفل، ثلاثة شخصيات فقط هي: الأم، الابن، البنت، جعلت من يشاهدها يتفاعل معها إيجابياً وتشدّه إليها من البداية حتى النهاية .
إنّ صناعة الدمى بهذه الملامح غير المعقّدة ستجعل الطفل (المتلقي الأول) يتمكن من الاحتفاظ بها في ذاكرته، ومن ثمّ يسترجع الفكرة التي طرحتها في هذا العمل المسرحي. لقد استطاعت خلود غازي الشاوي أن تشغل كلّ حيز التفكير الطفل وشحنه بفكرة واحدة هي الوقاية والتثقيف والترفيه والتسلية، وتحريكها بطريقة ذكية تتلاءم مع الفكرة المطروحة في هذا العمل.
كان استخدام بعض المشاهد المساعدة استخداماً ذكياً استطاعت ان تُنضج فكرة المسرحية عن طريق الأغنية الأولى في بداية المسرحية والأغنية الثانية في نهاية المسرحية، كون هكذا أغاني تثير فضول الطفل وتجعله يتفاعل ايجابياً مع الأحداث المرسومة في المسرحية وتقبّلها دون عناء، حتى الأصوات كانت تتلاءم مع أعمار الدمى في المسرحية، فكانت أكثر حيوية وواقعية.
إنّ التكوين العقلي والنفسي للطفل تجعله لا يتذوق الألحان الموسيقية المعقّدة والتي تشمل توزيعاً موسيقياً دقيقاً للأنغام والأصوات، لكن في هذه المسرحية نجد أن الإيقاعات الموسيقية كانت محبّبة ومنسجمة جعلت من الطفل يطرب لها ويتفاعل معها. ثمّ إنّ العين في مرحلة الطفولة هي عبارة عن عضو غير مكتمل، ومن ثمّ لم يكن من الملائم للطفل في هذه المرحلة العمرية أن يزاول ويتابع أي عمل يتطلب تدقيق وإجهاد والبصر، وإلاّ ألحقنا ضرراً جسيماً بصحته الجسمية والنفسية، لكن من خلال هذا العمل المسرحي نجد سهولة وبساطة الشخصيات والأحداث وعدم تعقيدها، مما يسبب الإرهاق والنفور لدى الطفل. أما الانتباه، فنحن نعلم أنّ الانتباه إلى شيء معين أو فكرة ما يتطلب قدرة على حصر النشاط الذهني في اتجاه معين مدة معينة من الزمن. 

في هذه المسرحية لم نجد أي جهد مضاعف من الطفل لمشاهدة ومتابعة أحداث هذه المسرحية. ثم إنّ هذا العمل تطرّق إلى أفكار بسيطة وغير معقدة لكنها تحمل مضامين مهمة، أفكار واضحة وقليلة، وهذا يعني إذا أردنا أن نلقّن الطفل شيئاً ما، وجب علينا أن نراعي بساطة المادة وقلّتها، أهميتها في الوقت نفسه، ومن هنا نجد الصعوبة البالغة في الكتابة للطفل، لأنّ من الصعوبة على الطفل أن يركّز نشاطه الذهني على عمل واحد ولفترة طويلة، لأنّ قدرته على حصر الانتباه لا تتعدى سوى فترة ضئيلة من الزمن تطول أو تقصر تبعاً لأهتمام الطفل بهذا العمل أو عدم أهتمامه به. وهنا في هذا العمل نجد قصر الوقت وبساطة الفكرة ووضوحها كما قلنا سابقاً، جعل من هذا العمل المسرحي عملاً ممتعاً وبثذ روح التفاعل الإيجابي لدى الطفل، فكان هذا العمل قد عبّأ الدوافع النفسية ونظمّها من أجل تحقيق الغرض، ومن ثمّ زاد في القدرة على التحرر من كلّ دخيل من المنبهات الخارجية التي تشغل تفكير الطفل وتشتت تركيزه .
إنّ مسرح الدمى يستطيع أن يمرّن الطفل على ثتبيت انتباهه بمجهود إرادي متصل وتعويده على التحكم في نشاطه الذهني من خلال عمل فني منظّم يهدف إلى مساعدة الطفل على تجنب الوقوع في المشاكل بصورة عامة، واختياره الحلّ والتكيّف وفقاً للوضع الجديد، واكتسابه المقدرة على توجيه ذاته دون الأعتماد على أي شخص إلا في المشاكل التي تتطلب تدخل الآخرين حينما يعجز عن إيجاد الحلّ المناسب لها .
لقد فقدنا وافتقدنا إلى مسرح الطفل وبالخصوص مسرح (الدمى) الفعّال والجادّ، وأسلمنا أطفالنا يضيعون في متاهات الشبكة العنكبوتية، وتلبّدتْ براءتهم وتصحّرتْ نتيجة هذا الهوس داخل عالم مليء بالمتناقضات. مازال الكثير من الأجيال تتذكر مسرح الدمى وبالخصوص شخصية (القرقوز) تلك الشخصية التي أحبّها ويحبّها للآن الكبير قبل الصغير، تلك الشخصية المحبّبة والعجيبة التي جعلت الجميع يتفاعل معها إيجابياً وتقبّل الأفكار التي كانت تطرحها بطريقة كوميدية هادفة .
إنّ هذا العمل الجادّ هو دعوة حقيقية للجميع في أن تتضافر جهودهم وتنتشل طفولتنا من الضياع القادم، وبثّ روح الأمل في مسرح الدمى من جديد .